الجمعة، 22 أبريل 2011

روح الشعب

… أوقف التلفاز بث برامجه وظهرت مذيعة شاحبة الوجه.. سيداتي وسادتي جاءنا هذا البلاغ… لقد تمكن المتمرد الزنديق، عدو الشعب من الفرار من زنزانته الواقعة تحت الأرض في إحدى التلال قرب العاصمة، هذا وقد أعلنت حالة الاستنفار في جميع فصائل القوات المسلحة وشرعت فرق من القوات الخاصة في البحث عن هذا الخارج عن القانون.. إضافة إلى ذلك فقد رصد جلالة الملك مكافأة سخية لمن يدل على مكان وجوده أو يلقي القبض علي.. وتختفي المذيعة ليبدأ التلفاز في بث أناشيد وطنية وأغاني تمجد الملك.

كان في المقهى بإحدى أحياء العاصمة وقد أشرقت الشمس وتثاءبت مداخن المدينة معلنة عن استيقاظ السكان… وبعد ليلة قضاها في الحفر هاهو الآن في ركن مظلم وقد تابع بلاغ التلفاز وجلس يراقب حركة المارة.. كل حركة مشبوهة تثير فيه مئات الأسئلة وتسري قشعريرة في جسده.. ينظر إلى الناس بريبة… لابد أن كل هؤلاء يطمعون في المكافأة … لم أكن قبل الآن أعرف بأنني صيد ثمين… تختلج هذه الأفكار في مخيلته وقد ازدادت حدقتا عينيه اتساعا وصار أكثر يقظا… ينهض من مكانه، ينظر يمينا ثم شمالا، يخرج من المقهى يختلس الخطى.. بدا له وكأن كل الخلائق تراقبه…

يا إلهي ما أضيق الزنزانة.. قالها وهو يبعث بناظريه تخترقان الآفاق.. كم أنت جميلة، الآن أدركت لماذا يبذل الناس أرواحهم لفداك.. بدا وكأنه يغازل أحدا، أحس وكأنه يطير بلا أجنحة، وبرغبة شديدة في الصراخ.. يا إلهي وكأن شيئا سيخرج من داخلي … يهم بالصراخ.. فجأة يتذكر التلفاز وتقفز إلى ذاكرته صورة الجلاد على باب الزنزانة فيحس وكأن سهما يشقه نصفين… أين المفر الآن ..؟ عيون الملك في كل مكان، كما أن سخاءه سيعجل بعودتي إلى الزنزانة … لا … لا أرض الله واسعة.. إذن علي أن أخرج من المدينة فأنا خارج عن القانون وحياة البراري قدر من يرفع رأسه ليرى نجوم السماء في وضح النهار… لكن كيف…؟ وتأتيه رائحة ليست غريبة عنه.. يلتفت فيجد ممرا إلى داخل المجاري )قنوات صرف المياه القذرة ) وتطفح إلى ذاكرته صورته وهو يقوم بتنظيف المراحيض في السجن… المجاري أفضل سبيل يوصلني خارج المدينة.. الزنزانة تحت الأرض.. المجاري بقذارتها يحتضنها قلب الأرض الطاهر، وغدا لنا فيها شبر يدعونا كل لحظة لحفره.. إنه الموت يتلون كالحرباء.. بخطى وئيدة وذهن شارد كان يجوب الشارع، يتجه إلى أقرب قناة لصرف المياه.. يفتحها بسرعة ويدخل وقد أحس بالأمان بعد أن خطى خطوتين إلى الأمام يتحسس المكان، في حين بدأت أعداد كبيرة من الجرذان في الفرار.. يخاطبها.. لا تخافوا.. لا يمكن للجبروت أن يتسلل تحت الأرض … الرائحة ليست زكية هنا، لكنها أزكى من رائحة الزنزانة، كما أن هذا المكان ممتد والزنزانة محدودة تماما كمحدودية آفاق الملك وأشياعه .. بثقة فائقة يواصل سيره وقد لازمت صورة الزنزانة مخيلته حتى بدأ التعب يغزو جسده، وبدأت أمعاؤه تصدر موسيقى مبهمة التقاسيم.. الجوع.. تلك السيمفونية التي يعزفها الفقراء في القرى البعيدة التي تنام قبل مغيب الشمس لتستقبل الفجر.. تسعى في صمت غير أبهة بشؤون الحكم والسياسة… يذكر السياسة ويغيب عن الوجود كنجم طاردته أشعة الشمس فاحترق ليضيء لها الطريق… أسند ظهره إلى جدار المجاري وهو يجلس القرفصاء وقد غط في نوم عميق لا حلم فيه.. فجأة يحس ببلل يلامس أطرافه السفلية ليتحول بعد ذلك إلى طوفان يعبث بجسده… يستفيق من النوم وقد جرفه التيار عدة أمتار… يحاول أن يستعيد توازنه.. كان عليه أن يسبح عكس التيار كما اعتاد أن يفعل، تواجهه رائحة كريهة، تخنق أنفاسه، يتحسس ماء السيل فيجده أكثر لزوجة… ترى أي نوع من الماء هذا..؟! يحاول جهد نفسه أن يواجه التيار المتدفق، كان من حظه أن القناة لم تمتلئ بعد.. بجهد واضح يحاول تمالك نفسه وقد كاد يفقد وعيه من نتانة الرائحة… يضع منديلا على أنفه وقد فقد المقاومة ضد التيار فاستسلم وراح يسبح في رحلة لا يعلم مداها ولا منتهاها، وطيلة المسلك كان يحاول اكتشاف نوعية السائل الذي يجرفه تياره.. فجأة يصيح متعجبا… يا إلهي إنه (البترول)…! هكذا أيها السائل النحس، تلاحقني حتى تحت الأرض، أما يكفيني ما نلته بسببك طيلة عشرة سنوات في الزنزانة… وتقطع تفكيره صرخة تنبعث من جوفه منبئة عن خطورة الأوضاع في أمعائه… الجوع ما يزال يمارس شذوذه في منعرجات معدتي التي لا تزال تبعث برائحة الصابون الذي أكلته بالأمس… يحاول أن يتشبث بجدران القناة الوسخة فلا يستطيع… كمن يتحدث مع أحد… يمكنني الآن أن أملك ما أشاء من هذا السائل، بل يمكنني أن أشرب حتى الثمالة.. كان خطئي أنني طالبت بليتراتي.. تكفيني عدة لترات لأكون ثريا.. لم أكن أعلم بأنني أطالب بجزء من دم الملك… ولما تراءى له النور من بعيد أيقن بنجاته وطفت ملامح البشر على محياه ليستفيق على حقيقة أخرى… لكن أنابيب ( البترول) تصب في مصافي على شواطئ البحر… لابد أنني سأتعرض لعملية تصفية وستحللني المواد الكيميائية وأصير ( بترولا) وهكذا أكون قد خدمت الملك من حيث لا أريد… فجأة يسمع حوارا بين اثنين بعد أن برز إلى النور وأخذه التيار عبر منعرجات تصب في هاوية عميقة… الأول:… أنظر يبدو أن هناك جسما قد جرفه التيار… أنظر ما هو…

الثاني: إنه إنسان بجلده… يبدوا أنه لا يزال حيا.. اسحبه إلى الخارج لنستطلع أمره.. ويسحبه ذلك الطويل بخباشة تماما كما تصطاد السمكة… يخاطبة أحدهم.. لا بد أن أمك قد ولدتك في دورة المياه…!! قالها بسخرية وأطلق ضحكة ملئ شدقيه ثم همس في أذن صاحبه… لابد أنه يحمل في دماغه أشياء يعاقب عليها القانون.. أنظر.. إنه يشبه ذلك الزنديق الذي رأينا صورته في التلفاز.. انتبه مضطربا فأشار إليه أحدهما بيده.. اجلس حيث أنت فأنت الآن كنز ثمين، أما الآخر فقد سارع لإخبار الشرطة… وما هي إلا لحظات حتى طوقت القوات المشتركة المكان وحطت طائرة مروحية بقربه نزل منها أناس ملثمون ومدججين بالأسلحة يتقدمهم رئيس الشرطة الذي ما إن رآه وتحقق منه حتى وقع مغشيا عليه وقام الآخرون بتكبيله ووضعوه في قفص حديدي وحملوه إلى الملك.

رن الهاتف في كل مكان واشتغلت أجهزة الفاكس تنقل الخبر وظهرت المذيعة من جديد تبشر الناس بالقبض على الزنديق وبدأ التلفاز يبث أغاني الفرحة والانتصار، بينما تسارعت حركة المارة في الشوارع وركنت السيارات إلى مرابضها ودخل الناس بيوتهم وأغلقوا الأبواب، وبعد مدة أعلن التلفاز أن الزنديق سيحاكم أمام الملأ بعد ساعة في ساحة القصر الملكي، وتقاطرت الجماهير على المكان يحملون أعلاما سوداء وأوعية تعبر عن مساندتهم لمطلب الزنديق بأخذ نصيبه من ( البترول) وجاءت المدينة بصغيرها وكبيرها، وبرز الجلاد على يمين الملك ورئيس الشرطة على يساره، بينما بقي العدد الهائل من الجماهير صامتين كأن الطير على رؤوسهم، ودقت ساعة الميدان معلنة بداية المحاكمة، وقد بدت الشمس تستعجل الغروب وكأنها لا تريد أن تكون شاهدة على جريمة أخرى يقترفها الملك، وجاءوا بالمتمرد مكبلا بالأغلال وألقوا به وسط الحلبة ثم نادى رئيس الشرطة يخطب في الناس … هذا جزاء من يتحدى إرادة الملك وسيناله كل من تجرأ على معارضة جلالته… في الحين بدأت الجماهير في قرع الأواني وساد المكان صخب كبير أعقبه صمت رهيب عندما تقدم الجلاد باتجاه الزنديق ونادى صاحب الشرطة مرة أخرى… إن جلالة الملك أمر بأن تقطع أوصال الزنديق إربا إربا، ثم تجمع في أتون كبير وتحرق وتحمل طائرات سلاح الجو مادته وتذروه في كل مكان من المملكة، عند ذلك صعق العديد من الحضور وبدأ آخرون في البكاء وامتلأ الباقون رعبا إلا امرأة واحدة فقد ابتسمت عندما رأت الزنديق يبتسم وهو بين الأغلال كالطود العظيم..

في الصباح شاهد الناس جيوشا تدخل المدينة يقودها الزنديق الذي تم إعدامه بالأمس وكل واحد منهم يشبهه وأكثر قوة منه واتجهوا رأسا إلى القصر الملكي وما إن رآهم الحرس حتى هربوا تاركين أسلحتهم ودخلوا يتقدمهم الزنديق حتى أشرف على إيوان الملك، وما إن رآه ومن معه حتى ارتجفت فرائصه وتعاقبت الفصول الأربعة على وجهه وجحظت عيناه وهو يرى الآلاف من نسخ الزنديق الذي أشرف على إعدامه بنفسه تخترق حصونه وبينما هو كذلك انشقت الأرض بين قدميه وابتلعته حتى النصف.. إذ ذاك سقط التاج عن رأسه وبدأ يتقيأ ما يشبه ( البترول ).

… الآن آن لك أن تستفيد منك الشعوب المقهورة وتصير ( بترولا) أو سمادا ينبت الزرع الذي يملأ الأفواه الجائعة…

وقبل أن يكمل الزنديق كلامه قاطعه الملك …

بالله عليك من أنت ومن هؤلاء؟ فأجابه أنا روح الشعب وهؤلاء إرادته

التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية