الجمعة، 22 أبريل 2011

المحطة المسافرة



مدخل:

" لكي تعيش بنقاء ضمير يجب أن تقتحم، أن تتعثر، أن تصارع، أن تقع في خطأ، أن تبدأ في أمر وتتركه، ثم تبدأ من جديد، ثم تتركه مرة أخرى، وأن تكافح أبدا وتعاني الحرمان أما الطمأنينة فهي دناءة روحية…"
تولستوي

النص:


.. أهل القمر على البلدة ونثر عليها أشعته الفضية بعد أن هاجمها الليل وجردها من الضوضاء ليترك الصمت يعزف ألحانه الدافئة رفقة أنغام الصراصير المنبعثة من كل صوب وحدب…


من بعيد يتراءى ضوء خافت ينبعث من غرفة تطل على شارع طويل يشق البلدة من أقصاها إلى أقصاها… في الغرفة إنسان لا يعرف عن نفسه غير هذه الصفة… ممدود في سريره يحدق في السقف بعينين واسعتين، بجانبه جهاز تسجيل يخرسه الصمت طويلا، وبالجهة المقابلة طاولة عليها أوراق وقلم أسود..

صمت طويلا ثم أصدر تنهيدة من الأعماق أحس بها وهي تصطدم بالجدران فيعود صداها نغما موسيقيا تطرب له الآذان… لم يجده الصمت الطويل فقد كانت الأفكار تتناطح وتتلاحم في مخيلته.. وضع شريطا سمعيا لأم كلثوم في آلة التسجيل وضبط مؤشر ذاكرته على بداية اليوم الذي يستعد لتوديع آخر لحظاته، وعندما بدأت أم كلثوم تصدح في آذانه (… فكروني…) كانت ذاكرته في بداية استرجاع أهم محطات يومه…

نهض في الصباح متكاسلا كعادته بعد أن مضى من اليوم الثلث، اتخذ مكانا له أمام البيت وراح يمتص حرارة الشمس التي توسطت كبد السماء وعلى امتداد الشارع تدب الحركة في كل شبر، رجال، نساء، يتحركون في كل الاتجاهات، أطفال يمرحون، سيارات ذات ألوان وأشكال مختلفة… الكل متفق على هذا الفعل العجيب، كلهم يتحركون إلا هو فهو دائم الجلوس في هذا المكان، يراقب الآخرين.. حز في نفسه أن يكون شاذا عنهم… لكن لماذا يتحرك…؟ ثم لماذا يقارن وضعه بالآخرين…؟!


أسئلة استعرضها في مخيلته وهو يرسم أشكالا غريبة في التراب وقد طأطأ رأسه على غير العادة… فجأة تلتقط عيناه شيئا متناه الصغر يتحرك قرب رجله اليمنى..

يحول نظره إليه فإذا هي نملة تحاول جر حبة قمح وقد بدت عاجزة عن ذلك ولكنها كانت تحاول … نظر إليها مليا، وهو يحس بوخز شديد في كل ذرة من جسمه…

يا إلهي حتى هذا المخلوق الصغير يتحرك… ليتني أعرف قصدها بهذه الحبة فأوصلها في لمح البصر.. وقد أحس بالرأفة عليها وهي تتعذب وخيل إليه أنها تكد وتجتهد من أجل إطعام صغارها الذين ينتظرونها في مكان ما، ثم ماذا يخسر من جهد إذا ساعدها في حمل حبة القمح، بل سيربح أجرا عند الله، بدا معتزا بقوته، لكن ما إن لمسها حتى اغتاظت وثارت ثورة جعلتها تدور في مكانها بحثا عن حبة القمح، فتعجب من رد فعلها وراح يراقبها بحذر والحيرة تملأ وجوده، ثم علق على المنظر باستهزاء… ربما حتى النملة تشعر بشيء من الكبرياء… وضحك في داخله ضحكة لم تستطع شفتاه أن تنقلها إلى الخارج، بينما انصرفت النملة ومعها حبة القمح إلى حيث لم يستطع تتبعها… رفع رأسه مرة أخرى يراقب حركة المارة وصورة النملة لم تغادر مخيلته بعد…

أسند ظهره إلى الحائط.. بدا وكأنه يكلمه… أنت أيضا لا تتحرك كما أن هذا الحجر لم يستطع تغيير مكانه رغم أنني أثقلت عليه بجثتي.. ولم يغب عن إدراكه أن هؤلاء الذين يخاطبهم هم جماد بطبعهم بينما هو إنسان بلحمه وشحمه، ولم يستطع أن يقنع نفسه بأنه مجرد حيوان ناطق، وما يعنيه ذلك من تجاهله لماضيه الذي كرسه لطلب العلم، فهو مثقف.. وحائز على شهادة جامعية، بل وكان من المتفوقين… يجتر هذه الذكريات وهو يتفرس في وجوه المارة وفي كل وجه كان يقرأ آلاف القصص والأحداث.. هذا يلهث وقد أثقل كاهله كم هائل من قطع الخبز… ترى هل سيطعم قرية بأكملها…؟! وذاك يمشي بخطى وئيدة ثابتة تخنقه ربطة العنق… واضح أنه إطار في إحدى المؤسسات، وتلك تبعث برائحة زكية وكأنها قارورة عطر متنقلة، ينظر إليها بدون تركيز حيث كاد أن يقنع نفسه بأن فعل الحركة يسيطر على كل شيء.. ترمقه بنظرة غريبة ثم تواصل طريقها وقد بدا وجهها كوجه مهرج من أثر الأصباغ…

لابد أنها تبحث عن زوج…؟! في كل الأحول لن أكون أنا… يبتسم وهو يغير وجهة نظره ومن بعيد يتراءى له شبح امرأة يقترب رويدا رويدا بحجابها البني وخمارها الأرجواني، منظر الفتاة أيقظ فيه ذكريات أعادته عنوة إلى أيام الجامعة وطفت في مخيلته صورة المرأة التي لم تكن ككل النساء، كاليائس راح يفرك يديه تارة يحك في رأسه تارة أخرى॥ يتنهد وهو يتابع خطواتها، لكنها ليست هي، سبحان الله॥ يخلق من الشبه واحد وأربعين… يتنهد مرة أخرى كمن يختنق ويرمي بجسده المتهالك على الحائط… فجأة يتوقف جميع من في الشارع بحركة آلية موحدة ويلف الصمت المكان … يبحث عن السبب … ترى هل توقف الزمن…؟! … ينظر إلى مؤخرة الشارع فإذا جمع غفير من الناس يمشون وراء سيارة تسير بتمهل وهم خاشعون وكأن الطير على رؤوسهم… لابد أنها مسيرة ضد نظام الحكم أو للمطالبة بزيادة الأجور وقد تكون مسيرة للبطالين الذين يطالبون بمناصب الشغل.. يشعر برغبة ملحة في الانضمام إليهم… لكن سرعان ما يدرك بأن الأمر يتعلق بجنازة… ينهض من مكانه ويقف شبه مستعد، تماما كما يفعل الجنود ويمر الموكب يشق الشارع في هدوء رومنسي… يعود ليجلس وقد عادت الحركة إلى جميع الذين أصبحوا تماثيلا في لحظة واحدة… الله أكبر… إنه الحق… الموت نهاية كل حركة والسكون الأبدي لكل ذي روح، الموت هو الحدث الوحيد الذي يعلمه الآخرون ويجهله المعني بالأمر.. ترى هل هذا الميت يعلم بأنه قد مات..؟!.. ترى هل هذا الميت حزين على نفسه كما يحزن عليه هؤلاء…؟! ثم لماذا توقف المارة ينظرون إليه، وكأنهم مذنبون …؟! أراءيت إن كان حيا، هل سيمنحونه كل هذا الاهتمام …؟! الحقيقة أشك في ذلك لأنهم كانوا يقومون بأفعال خارج إرادتهم أو على الأقل هذا ما شعرت به أنا … ولم يشأ أن يدخل في متاهات الأفعال اللاإرادية التي تعيده حتما إلى تذكر الجامعة وشهادة الليسانس في علم النفس… بينما هو كذلك تناهى إلى سمعه مزيج من الضوضاء، تشكله أبواق السيارات وأزيز محركاتها… رفع بصره يستطلع الأمر فإذا هو موكب آخر ولكنه مفعم بالفوضى والأهازيج، وبسهولة فهم أن الأمر يتعلق بحفل زفاف وهاله أن يشيع قبل قليل إنسانا زف إلى دار البقاء، وهاهو الآن يستقبل عروسا تزف إلى دار الفناء… لم يستطع أن يتخلص من الدهشة التي تملكته فراح يلعن هذا الوجود الذي يشكل العبث منعرجاته… لكن هذه هي الحياة … كلمة قالها وهو ينظر إلى تلك الوجوه المنشرحة وراح يقارنها بالوجوه التي كانت تشيع الجنازة ولم يغب عنه أن الأشخاص الذين كانوا واجمين عندما رأوا الجنازة هاهم الآن يحيون العروس ومن معها بابتهاج وحبور।



1999

التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية