السبت، 23 أبريل 2011

إرهاصات الأفول


وحيد في غرفته .. الحي غارق في سكون مخيف.. ممدود في سريره يحدق في السقف بعينين واسعتين غير بعيد من نافذة تطل على أكبر شوارع المدينة.. الغرفة تسبح في ظلام دامس، يشقه ضوء خافت ينبعث من شمعة متآكلة في إحدى الزوايا تتهادى في هدوء رومانسي.. تتقاذفها نسمات تنبعث من النافذة المفتوحة.. على الطاولة في الجهة المقابلة جهاز مذياع يصدر موسيقى هادئة و بجانبه مرآة كبيرة تتباهى في كبرياء بصفاء وجهها.. على الطاولة أوراق كثيرة و قلم أسود.. هو الآن في الطابق السابع و في الشارع أضواء متسلسلة تظهر و تختفي…

هو الفناء في أسمى معانيه .. كلمة قالها و هو يتقدم إلى المرآة بجهد واضح..

أسئلة تحاصره الآن..

هل يمكن أن نقنع بحياة ليس فيها غد..؟ ماذا لو بُعث النبي في زماننا هذا..؟ هل سيوفر لنا مناصب الشغل..؟؟

ينظر إلى المرآة، يهم بكسرها ثم يتراجع..

لن أكون مثل ذلك الأعرابي الذي وجدك في فلاة ملقاة فقال.. لو كان فيك خير لما ألقاك صاحبك .. الوقوف أمامك محكمة أنا القاضي فيها .. أنا المتهم .. أنا الضحية حتما.. لا بد أنك مرتاحة في هذا المكان في حين أتعب نفسي بالوقوف أمامك.. لن أطيعك أنا عاص، هذا مبدئي الأول..

تتوقف الموسيقى المنبعثة من المذياع .. سيداتي.. سادتي إليكم هذا الخبر ..

قتل سبعون شخصا إثر انفجار في … من جهة أخرى هلك مائتي شخص جراء فيضانات.. وأدى التناحر بين طائفتي .. إلى وفاة مائة و خمسين مدنيا…

و تعود الموسيقى الهادئة … هو الفناء بعينه.. رددها مرارا ثم سكت .. يبتسم ضاحكا في سخرية واضحة…

لابد أن المذياع قد جن بل المذياع مجنون.. كيف تنساب أخبار الموت في هدوء تشكل سمفونية تبعث على الحياة من جديد.. ينظر إلى صورة جده ..

أنت أيضا كنت ضحية الفناء ، لكنك ما تزال حيا .. أنت الآن أمامي، قد أكون أنا الصورة و أنت الحقيقة… المرآة علمتني أن أكون صورة .. لا بد أنك تريد الكلام .. أعرف أنك لا تستطيع.. كما أن جدتي قالت عنك الكثير.. أنت من قاومت غزاة بلدنا ..لا بد أنهم عذبوك.. الآثار لا تزال في جبينك.. قد تبالغ جدتي لكن الجبال و الوهاد تنطق الحقيقة.. ليتك تعرف ما يحدث الآن..

يسكت و قد اختنق من الضجر .. يسكت المذياع… صمت رهيب يعم أرجاء الغرفة … تتحرك الأوراق .. النسيم يحدث الضوضاء .. هي لطافة العصر .. كذلك هي لطافة الفتيات.. تنطفئ الشمعة ..

أنت الآن خفاش ..قف .. أنت مجرد أكذوبة .. لست شيئا .. أنظر إلى نفسك .. أنت فحمه ..

يتفجر الصراع في رأسه و تتسع أبواب التيارات ..

أنا لا أخاف من الظلام.. لكنني أخاف ممن يبطش في الظلام.. هو الفناء يمارس طقوسه .. الظلام موحش .. لست أدري لماذا يفضل أبناء جلدتي الحياة في الظلام .. الحشرات أيضا.. ربما هم أيضا حشرات آدمية… يبحث عن النور.. النسيم يزداد برودة .. يتذكر ما قاله الأستاذ..

هل حقيقة أن العلم نور؟.. أربع عشرة سنة قضيتها في التعلم لا أظنها تستطيع إضاءة هذه الغرفة.. لا هذا هراء دائما كانت أفكاري سطحية، ثم ماذا يفيد هذا الكلام الآن .. ؟ كم هو قاس هذا النسيم..؟ ..

يقفل النافذة … كذلك أقفلت علينا الأبواب في كل مكان .. يتمتم .. يريد قول شيء آخر.. يصرخ … لا شيء يفيد .. يجد علبة كبريت في جيبه.. يوقد الشمعة..

هو النور يعود إلى حياتي ..أكره الظلام ..أكره الظلاميين أيضا .. في المدرسة علمونا حب الوطن.. أنا لا أجد تفسيرا لهذه الفلسفة.. المسؤولون يحبون الوطن.. كلنا نحب الوطن، لكننا نختلف.. الحب أيضا يختلف.. صديقي يحب زميلة لنا في الصف.. كلهم مجانين.. أستاذ الفلسفة يحب "ديكارت".. أنا متفوق في دراستي.. كل الأساتذة يحبونني.. الفتيات أيضا.. لكنني أحب الفناء.. إحداهن عيناها جميلتان لكنهما زجاجيتان.. لا.. لن أحبها.. هذا عصيان.. الذاكرة تلتهب أكثر..

لا أريد أن أذكر أكلي لفتات الحلويات المتبقي على الطاولات.. لا أريد أن أذكر أنني تسولت يوما في حالة تنكر.. هو الفناء يراود تلك الذكريات..

في المدرسة الداخلية كانوا يوهموننا بأننا طلاب علم.. كل شيء يوجد هناك إلا العلم.. أذكر أنني جدعت أنف أحدهم من أجل قطعة خبز.. أبناء الفقراء يقاسون الجوع هناك.. يضحون من أجل العلم.. لكنني أعرف أن جدران الشوارع تعبت من الوقوف دون معين..

يسكت مرة أخرى.. ينهض من مكانه.. يلمس صورة جده.. هي تجاعيد الشقاء تشكل تضاريس وجهه.. يخاطبه..

أنت بطل.. هكذا يقول عنك الناس.. لا بد أنك ستجن عندما تسمع أن الأحزاب التي حفظتها سورة بسورة قد تجاوزت الستين.. إنه مجون الساسة يصنعون الفناء على الطاولات..

فوق طاولته أوراق كثيرة وقلم يؤرخ للذكريات … يعود إلى المرآة .. يتأملها مليا ..

لا .. لا.. أنت كاذبة.. لست أسمرا.. لابد أن الغبار يغطي وجهك .. هو الزيف يطبع أيامي.. أنا لا شيء.. سبق أن قلت هذا.. الآخرون يعرفون ذلك..

تنهد طويلا ..اقتلع أنفاسه من العمق.. يرن الهاتف.. رقاص الساعة يقترب من منتصف الليل.. تسارعت دقات قلبه.. ترى ماذا حدث؟.. يرفع السماعة بلهفة.. ألو..ماذا هناك.. يجيبه صوت رقيق يبث نغما موسيقيا .. إنها معجبة .. لقد قرأت اسمه في الجريدة .. يضحك مقهقها ..

الوقت متأخر… شكرا على الاهتمام .. لقد قررت أنني لا شيء.. هذا لا رجعة فيه.. حتى الجريدة تنشر اسمي بعد ثلاث سنوات.. إنها العبقرية الحديثة.

يشعل سيجارة .. تنفث دخانا ينافس دخان الشمعة.. يختنق مرات عديدة.. هو الفناء يراود أيامه.. رقاص الساعة يواصل دقاته المتسارعة.. يفتح النافذة.. يلقي نظرة.. الجو لطيف.. عدد السيارات بدأ يتضاءل في الشارع.. يبدأ في العد .. يسكت .. يجب أن أجد طريقة أخرى للخروج من صراعاتي المستديمة..

يلقي بقايا السيجارة ويلاحقها بعينيه .. وتلتهب ذاكرته .. يتذكر فشله في شهادة البكالوريا .. يتذكر طرده من الشركة.. ينفث آهة كأنها آذان الفجر يدوي.. وحيد في غرفته.. يصرخ.. يقفز من النافذة .. إنه الفناء يطوي دفتر أيامه.



التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية