السبت، 10 سبتمبر 2011

الوثن

مدخل: قبل أسبوعين أصدرت سلطات بلادي مرسوما يقضي بمنع استيراد المرايا وتحطيم كل الواجهات التي يعكس زجاجها صور الآخرين.. لكن لابد أن يكون هناك شيء آخر قابل للكسر.

 النص:
مساء أمس اجتاحني تيار الخليج.. ضاق سمعي بألوان الضجيج.. كأنه حفل بهيج.. رحت أبحث عن صورتي.. عن تقاسيم وجهي الضائع، بين ثنايا الآتي، بين صفحات الماضي الذي لا يأتي..

 إنها الغربة.. والآن أعترف.. كم كانت المرآة تنقذني من ضلالاتي، كم كانت شظاياها تمتص عنفي وعنفواني.. حتى في أوج انهزامها أمام لكماتي كانت تهزمني بِصمتها.. بصفاء وجهها.. بكبريائها التي لا تنضب.. منذ سنوات قال نزار قباني.. عشرون ألف امرأة أحببت.. أما أنا فأقول الآن.. عشرون ألف مرآة كسرت.. عشرون ألف صورة مزقت.. وكانت صورتك خيالا في أفقي يأبى الانكسار، يسمو فوق كل اعتبار.. وكان علي أن أبحث عن شيء آخر يكسرني.. يأسرني.. ينثرني على أديمك كالحَب.. وتتبرعم بعده الأزهار ليصير الانكسار انتصارا وتنمو بين جوانحي برعمة فتية، رائقة القد، شهية الكبرياء.. ونقطف الثمرة في آخر الربيع.. ما أروع الانتصار لولا الهزيمة.

 كان لنا جار.. نِعم الجار.. على بعد أمتار من بيتنا يقف طوال الوقت.. ألقي عليه السلام كل صباح فلا يرد.. أشتمه عند المساء فلا يرد.. باردة دماؤه أو متجمدة.. شاب في مقتبل العمر، عاري البدن، مغروس في الأرض، لا يشيخ ولا يشيب، مذ عرفته وهو يحدق في الأفق كمن ينتظر المجهول.. سئمتُ من سكونه لما ضاق سمعي بألوان الضجيج.. اتجهت إليه.. اسمع.. يا أنت.. هيا.. قل شيئا.. من فضلك.. خلصني من هذه الوحدة القاتلة.. بالله عليك.. ألا تسمع كل هذا الضجيج؟.. أم أنك أصم؟.. هيا قل شيئا.. وإلا.. تعرف أنني أقدر حق الجار.. لكن للصبر حدود.. هيا.. ابتسم.. ابك.. اصرخ.. لا تصمت، فالصمت جبن.. سجل موقفك..

لكنه أبى الحديث.. ظننته في بداية الأمر متكبرا، أو أنه يستفزني بصمته القاتل.. مرة أخرى أحاول تخويفه.. اسمع.. أنت لا تعرفني.. هيا نفذ أوامري وإلا.. وأصفعه.. فإذا الألم يشل ذراعي.. آآآي.. أيها الأحمق.. لطالما خالفتُ الآخرين وادعيتُ أنك آدمي ممسوخ، لكن.. يبدو أنهم صدَقوا عندما قاطعوك وسموك صنما.. يبدو أنك مجرد تمثال حجري فر الأولون وتركوك مغروسا في هذه الأرض، أو أنهم عاقبوك.. أو.. لا يهمني أصلك ولا فصلك.. لكن.. أرجوك ساعدني.. قل شيئا حتى أقنع نفسي ثم الآخرين بما يملأ صدري..

ويظل الصمت لغة ربما كنت لا أفهمها.. لكن لي لغتي الخاصة وستفهمها الآن.. تناولت فأسا.. هيا.. قل شيئا.. أنا إبراهيم هذا الزمان.. أنت تعرف مصيرك إن لم تتكلم وتعلم أيضا أن أمر طالبان قد صدر وتعرف كذلك مصير إخوانك في "باميان"**…. هيا.. ألعن الشيطان.. أنقذ نفسك من فأسي.. حرر رأسك من بأسي.. سأحطمك.. إن لم تتكلم.. أرفع فأسي.. أمد خطوة للوراء.. استعد للهجوم.. أسمع صوتا يقول.. لا.. يا أخي.. عار عليك إذا فعلت.. هذا ظلم وشرائعكم تحرم الظلم.. ألم يأت في أثركم.. ارحموا عزيز قوم ذل؟.. هيا انزل فأسك، فقد تؤذيك لعنة أجدادي.. ثم غادِر المكان قبل فوات الأوان.. هكذا إذن.. سكتّ دهرا ونطقْت كفرا.. كم أنت مغرور أيها الوثن..

حقا لم يخطئ من قال بأن الصمت حكمة وقليل فاعله.. كنت أرمي من وراء استنطاقك أن أبثك بعض ما يضيق به صدري، أن أفتح نافذة على عالمكم المجهول، أن أعرف سر قوتكم حتى غلت الأمم السابقة في عبادتها لكم.. كنت أصبو إلى صداقة بيني وبينك، علني أجد في جمهوريتكم ملجأ يخلصني من ضجيج البشر.. كنت أبحث عن الهدوء.. عن الصمت.. عن الوقار الذي كنت أحسدك عليه وأنت تقف على قارعة الطريق بجوار بيتنا غير حافل بمن يصعد ومن ينزل.. لكن يبدو أنني أخطأت الطريق.. أنتم أيضا معشر التماثيل يملؤكم الغرور.. ومن يدري فربما كنتم بشرا مثلنا ومن فرط طغيانكم مسختكم قوى الطبيعة لتكونوا عبرة لنا ولمن يأتي بعدنا..

وسكت التمثال يصغي إلى كلامي، بينما رحت أبحث عن الألفاظ القاسية القبيحة والأوصاف المقززة لأصفه بها.. لكنه كان أقوى مني مرة أخرى.. وآثر أن يصمت حتى أحسست بأنه عاد إلى عادته القديمة.. اسمع.. أرجوك.. لا تصمت مرة أخرى واعذرني إن أسأت إليك.. أنا الآن أطلب منك الصفح بعد أن صفعتك وقلت فيك كلاما قد لا يروقك، ثم ما رأيك لو أعلنا الوئام بيننا؟.. تعلم أنني لا أطيق الاجتماع ببني جنسي.. فلم لا تكن لي نعم الصديق بعد أن كنت لنا نعم الجار طيلة هذه السنوات..

ورحت أترجاه مرة أخرى أن يقول شيئا، وكان صمته لغة أخرى ربما كنت لا أفهمها.. أخيرا نطق فقال.. غريب أمرك أيها الكائن العجيب، تهجر بني جنسك وأنتم معشر البشر عماد الوجود وأساسه، ثم تبحث لك عن مكان بيننا وقد تجاوزَنا الزمن وصرنا مجرد ديكور على هامش الحياة.. ضاع مجدنا.. لا معنى لوجودنا.. أنتم البشر صرتم الكل في الكل.. بعد أن كنتم تعبدوننا وتقدمون إلينا القرابين زلفى.. كنا نسخر منكم.. لكنكم أغبياء.. مهووسون بالمجهول.. الآن تأتي أنت لتحيي فيّ ذكريات ولواعج لا قبِل لي باجترارها.. أرجوك اتركني وشأني.. إن أردت أن تعبد صنما فابحث عن غيري.. ثم ما أكثر الأصنام من بني جنسك أمثالنا.. إنكم تعبدونهم، تقدسونهم.. فاذهب إليهم ودعني وشأني..

 واسترسل الوثن في حديثه بينما عادت رغبتي الجامحة في تكسير الأشياء تملأني بالحنق عليه.. اسمع.. لا تكثر الكلام فحرية التعبير عندنا لها حدود لا يمكنك تجاوزها.. ثم من سمح لك بالكلام في السياسة.. أنا أحذرك فسجوننا تسع أمثالك وأمثالي وكل من تُسول له نفسه التفكير في هذا الأمر..

قلت هذا الكلام ثم ندمت، بينما بدا التمثال غير مبال بما أقول.. ومضى في تفكير عميق.. كان صامتا وقد بدت ملامح الحيرة على محياه.. اعتقدت أنه يستعيد أحلى لحظات عاشها في حياته.. خِلته خاف من هذا المصير وبدت عيناه مغرورقتين بالدموع.. كنت أسمع وقع أسنانه وهي تصطك.. صهيل أحزانه تملأ الدنيا صخبا.. ولم أشفق عليه.. كان علي أن أحطمه..

 اسمع.. لقد مضى زمن وأنا في انتظار إجابتك.. هيا قل.. وإلا اخترت بدلا منك.. ولم يقل التمثال شيئا، فصفعته للمرة الثانية، ورغم الألم الذي شل يدي تظاهرت بالغضب والحنق عليه.. ما أجبنك.. هذه آخر فرصة يمكنك أن تعبر فيها عن شعورك.. يمكنك أن تشتمني، أن ترد الصاع صاعين.. أن تمارس حقك في حرية التعبير كما لم تفعل من قبل.. هذه هي ديمقراطيتنا فاغنم من الحاضر ما لن يوفره لك المستقبل.. أي مستقبل.. ستكون بعد لحظات نسيا منسيا وسيفتقد الناس صورتك وأنت تقف على قارعة الطريق.. طبعا لن يأسفوا لمصيرك، لن يذرف أحد دمعة من أجلك..

 وما كدت أتخلص من آخر كلمة حتى نطق.. أنت مخطئ.. ستبكي السماء من أجلي، وهناك حبيبة العمر ستنتقم منك.. امض فيما أنت فاعل.. لكن أجبني عن سؤال واحد فقط.. بربك لماذا تريد تحطيمي؟ واختنقت الكلمات في حلقي.. اغتال سؤال التمثال إرادتي وبقيت أنظر إليه مشدوها مفتوح الفم.. لماذا أريد تحطيمك؟.. لست أدري.. ربما لأنك بريء غير مذنب.. ربما لأني أغار من صمتك وثباتك في هذا المكان منذ آلاف السنين.. يجب أن تعلم بأن الصمت يغتالني.. يستهويني الهدوء والوقار وأنت كنت لغزا يستفز فضولي كل صباح ومساء.. ماذا يعني أن ألقي عليك السلام ولا ترد؟.. أي كبرياء هذه الذي تملأك؟.. كنت لغزا عصي الحل وكان علي أن أفكك أو أفككك.. إذن لا تطلب مني المستحيل ففي بلادي لا يجوز للضحية أن تسأل الجلاد عن مصيرها..

 لو كنت تحمل سلاحا لما تجرأت عليك.. لو كنت واضعا قبعة على رأسك لصرت المعبود هنا دون منازع.. لكنك أعزل وفقير ووحيد.. وهذا سبب كاف يجعلني أعثر أخيرا على شيء أمارس عليه سلطتي دون أن يخيفني رد فعله، إنها الحقرة يا صديقي.. رضعناها من ثدي أمسنا.. وصرنا نتقنها.. فاعلين تارة ومفعول فيهم تارة أخرى.. اليوم يا صديقي إذا كنت عرضة لهذا التصرف، فهذا ليس ذنبي.. وإنما ذنب الأقدار التي أتت بك إلى هذا المكان.. أرجو أنك فهمت ما أقصد.. والآن دعنا نطوي هذه الصفحة.. ستكون نهايتك سريعة، وسأعمل على تنفيذ الحكم والحزن يعصر قلبي.. سيكتب اسمك ضمن قوائم شهداء الواجب، وفي هذا المكان بالذات سنقيم تمثالا آخر يخلدك.. هكذا هي سنة الحياة..

 كنت أتكلم وقد بدأت الرحمة تتسلل إلى قلبي، أما صديقي التمثال فكان الدمع يغرق مقلتيه.. أحسست في لحظة ما أنه يود اقتراح حل آخر، لكن كبرياءه تمنعه.. كانت الفأس في يدي تتحفز للانقضاض عليه.. اسمع.. هيا.. قل كلمة أخيرة.. لا وقت لدي.. وتكلم التمثال فقال.. الآن فهمت لماذا تريد تحطيمي.. لكن أصغ إلي لتعرف سبب رفضي قضاءك وقدرك.. لست جبانا كما تظن.. لست متمسكا بالحياة كما يفعل بنو جلدتك.. ولكن إذا كنتُ قد قاومت الأعاصير والكوارث منذ آلاف السنين فهذا لا يعني أنني أفعل ذلك بدون هدف..

 لقد عشت من أجلها منذ أن نحَتنا إمبراطور الرومان في هذا المكان.. كانت بجانبي.. لا تفارقني كآدم وحواء، وكان الزمن يطوي بنا الدهر طيا.. أحببتها لأنها كانت الوحيدة التي تفهمني.. أفضي إليها بأشجاني وتفضي إلي.. نقضي النهار متعانقين، نثير فضول أمثالك فيقبلون على التقاط الصور بجانبنا.. كم كان أمثالك يحسدوننا.. قالوها صراحة.. كيف يصنع هذان التمثالان الحب والفضيلة معا وهما عاريان.. آخرون نعتونا بالفسق والدعارة وطالبوا بتحطيمنا، لكن آلهة الحب كانت تحمينا ..

آه.. يا صديقي، ما كنت أرغب في اجترار هذه الذكريات.. لكنني أفعل ذلك رغم الأسى الذي يعصر قلبي لعل قلبك يرقّ وتتركني أعيش من أجلها.. لقد أحببتها وصرت لا أرى في الكون غيرها، لكنها كانت امرأة.. تستنشق الغرور وتبعث مع الزفير كبرياء لا تنضب.. ذات يوم.. زارنا سواح من بلاد بعيدة.. وكانت برفقتهم صبية جميلة، راحت تداعب أعضاء جسدي.. كان الموقف محرجا.. وما كانت بيدي حيلة.. لكن حبيبة العمر ثارت في وجهي.. اتهمتني بالخيانة، وأقسمت أن لا تمشي معي بعد اليوم.. كنّا تمثالين عاريين مغروسين في الأرض.. ولست أدري كيف اعتقدت أنها كانت تمشي معي.. كانت تنطق لغة لم أكن أفهمها، وكنت أحبها، لذلك ثرت أنا الآخر ورحت أصيح.. أنا أحبك.. أنا لا أمشي معك.. هل تفهمين؟..

بعد يومين جاءت شاحنة ورافعة واقتلعتا حبيبة العمر، وبقيت وحيدا.. وحيدا..

كان يتكلم وكنت أصغي.. انقلبت الآية.. وأحسست في لحظة ما أن الفأس بدأت تذوي كالشمع بين يدي.. رجلاي ترتجفان، حدقتاي تتسعان.. ودقات قلبي تجاوزت السرعة القصوى.. لم يكن الكلام سوى وخزات في صميم الفؤاد.. اسمع.. أرجوك.. عد إلى صمتك.. لا تواصل.. صار ضجيجك يملأ أذنيّ.. لكنه لم يصمت، ومضى لسانه يسرد مآسيه المتناسلة عبر الزمن.. ولم يصمت..

اسمع ربما أصَبت مني مقتلا بقصصك هذه.. لكن من فضلك توقف عن هذا الكلام فما عدت أطيق سماعه.. ولم يعرني الاهتمام.. يا إلهي.. ماذا أصابه.. مرة أخرى استجمع قواي.. ويلك مني.. سأحطمك إن لم تصمت.. وبدأت الفأس تضطرب في يدي ثم سقطت.. فابتهج التمثال وصاح.. أرأيت.. لا يمكنك أن تحطمني.. أحلامي تئد إرادتك في هذه اللحظات.. أنت الآن رهن إشارتي.. لقد انتصر الحب على الهوس..

كان يتكلم بطلاقة ما عهدتها فيه وكان صمتي يغتالني، فجأة تسللت من مقلتيّ دمعتان.. واحدة جفت على خدي الأيسر والأخرى سقت الحقول المجاورة ثم قصف الرعد ونزلت من السماء أمطار غزيرة، وقالت جدتي.. إن الأرض تعانق السماء.. إن الأرض تحب السماء

مشهد أخير

لم يكن بجوار بيتنا أي تمثال.. أنا أكره الأوثان كما أكره الصخور الصماء.. ولكن كان في بيتنا تمثال دائم الصمت لا يكلم الآخرين.. هوايته تكسير المرايا.. ولما أعلنت سلطات بلادي حظر استيراد المرايا صار التمثال الذي ببيتنا يبحث عن شيء يكسره.. في لحظة ما وجدتني أكلم نفسي، استدرجها.. استنطقها.. لماذا كل هذا الصمت؟، وكان جوابها صمتا قبوريا.. إنها أحاديث الصمت يا أصدقائي.. ما عاد الكلام يجدي.. ما عادت الحياة تتقن غير الانغماس في الذات بحثا عن الذات.. هذا الوجه في تلك المرآة.. يستفزني.. يقهرني..

اسمع لا تنظر إلي.. أرجوك.. ما عدت أقدر على مواجهتك، وتنساب من الذاكرة صورة أنثى غطت صورتي في المرآة.. الآن ما عدت أرى غيرها.. فطِبي نفسا أيتها المرآة.. ولا تخف أيها الوثن.. لن أكسر شيئا بعد اليوم.. الآن هناك سبب أحيا من أجله.. كان صوت أم كلثوم ينبعث من بعيد ".. يا حبيبي لا تقل شئنا فإن الحظ شاء، وفجأة انطفأت الأنوار ولم أعد أرى شيئا.


 1999

التسميات:

2 تعليقات:

في الجمعة, سبتمبر 18, 2020 , Blogger Unknown يقول...

رائع

 
في الجمعة, سبتمبر 18, 2020 , Blogger Unknown يقول...

عيساوي فاطمة عمل مميز ورائع

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية