الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

برقلاح



".. إمض يا ولدي.. لقد مروا من هذا الطريق.. أسرع الخطى، لا تجزع واكتب مصيرك بيدك.. أنت تعرف أن الحياة قنينة فخارية، يكسرها نسيم الصباح كما تكسرها أعقاب بنادقهم.."

بلسان يهذي، وقلب يرقص، أوصت برقلاح ابنها الصغير أن يتخذ من الجبل ملجأ يواري فيه رعب آخر الليل وهلع تباشير الصبح.. امض يا ولدي، هكذا كانوا يأتون في تلك الأيام.. يدقون الباب، يكسرونه، يقتحمون حرمة الدار، يبحثون عن الرجال.. يأخذون الرجال وتبقى رياح الخريف تسافر في البيت من أقصاه إلى أقصاه..

ذات مساء كانت السماء تعانق أديم الأرض، وكان العناق من مطر.. سمعت ذكَر البوم ينشد أراجيز ما كنت أسمعها من قبل.. قلت في نفسي.. معاذ الله أن يصدق حدسي، فهذا الطائر لم يخيّب حسي في يوم من الأيام.. لابد أن خطبا يترصدنا الآن.. دق قلبي دقة زائدة.. دقة واحدة.. اثنتان.. يدق الباب دقتان.. تتسارع دقات قلبي، يهتز الباب، ينفتح القلب.. ينكسر الباب.. يدخل طيف أسود، يشهر سلاحه..

أين أحمد؟..

لا أحمد هنا..

- قلت لك.. أين أحمد؟..

- أحمد في أعماقي فابحث عنه إن استطعت..

- أيتها العجوز الخرقاء.. سأشطرك إلى نصفين إذا اقتضى الأمر.. يشير إلى زبانيته..

- هيا ابحثوا عنه في كل مكان..

وتعود الذاكرة إلى أزمان مضت.. نعم يا ولدي.. هكذا كانوا يأتون في تلك الأيام.. كنا نأكل الخوف، نشرب الرعب، نشبع الضرب، وكانت هاماتنا تطاول الشامخات ولم تنحن.. امض يا ولدي ففي الجبال دياجير لا تخترقها الأطياف السوداء.. لا ترقى إليها أسباب الفناء، ودعنا نواجه مصيرك كما واجهنا مصائرنا في تلك الأيام..

يعود الزبانية..

- قلَبنا سافلها عاليها ولا أثر لذي رجلين..

- هكذا إذن.. صدقت وسأقسمك الآن إلى نصفين..

شهر سيفه، تنتفخ أوداجه.. تتأجج عيناه شرا مستطيرا..

- قولي.. أين أحمد للمرة الأخيرة؟..

- أحمد بين الشريان والوريد أيها الأحمق فاقطعهما إن أردت الوصول إليه..

- كم أنتِ شجاعة.. كالهدير العاتي يُعقب..

- وكم أنت جبان إن لم تفعلها.. كاللبؤة ترد.. ويمضي السيف يكسر القنينة الفخارية في صمت وهدوء رومنسيين.. سنكون أشرارا إذا لم نلحق بك قرة عينك.. قالها، وهو يخلص سيفه من جسدها..

نعم.. لقد قتلوا جدتي برقلاح ومازال قلمي يؤرخ للذكريات رغم رعب آخر الليل وهلع تباشير الصباح..



2000

التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية