الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

الحلم المحظور


هناك حيث تربو الهزيمة في كنف النصر، هناك حيث يعشش الذل في عز العز والشرف.. بين تلك الشامخات التي تغازل النجوم في صمت، وتلك الوديان التي تغزو الأعماق غير آبهة بشرود الآفاق ومن يرتادها.

على نتوء يعلو جلبة الطبيعة ترقد مركوندة في هدوء سحري، تمتد من سفح الجبل إلى السفح الآخر، تتخللها وديان كأنها العروق في الجسم تبث الحياة في كل مكان، هي تجاعيد على أديمها تنبئ بجلال الروح التي تسكنها..

منذ ذلك الزمن الموغل في الماضي تلتحف بساطا أخضرا كأنه السندس يملأ الأجفان حياة.. هي هدية الرب إلى شياطين الإنس، بين الفينة والأخرى تخرج عن المألوف تزهو مع إشراقة شمس كل صباح، تغني للورى، تنشد أعذب الألحان مع زقزقات العصافير التي تستقبل الصباح، تسبح رب الأكوان..

هناك حيث لا تزال نائمة في ليل أبدي صنعه أهلها من جلابيب عقولهم المنخورة، المهزومة بأساطير صنع منها الدهر قوتا لعياله…

في لحظة استرقها الزمن من يومياتهم الصاخبة ولدت صبية حسناء، جاءت إلى الحياة مع أفول آخر شعاع من الشمس، يودع الوجود في يوم خريفي غاضب، جاءت كضيفة ترجو البقاء، صبية يشع محياها نورا، وتتقد عيناها رغبة في الحياة، فرح الأهل بالقادم الجديد وأقاموا الطقوس تبركا بها واختاروا لها من الأسماء اسم بلدتهم " مركوندة".

عاشت مركوندة في كنف أسرتها تجعل من خدمة والديها سببا لوجودها.. التحقت بـ "الصرعوفة" ترعى الغنم منذ صباها، وراحت تجوب البطاح والوهاد في السابعة وتعلمت صناعة "الكسرة" في العاشرة..، كبرت "مركوندة" وكبر معها الأمل في حياة تنسيها تعاسة الماضي، تعلمت كيف تمخض اللبن في جلد الماعز المعلق على قائمة ثلاثية الأرجل، تعلمت كيف تحلب البقرة وتركب الحمار لتزود أباها بالمؤونة في الحقل.. "مركوندة" جسد فتاة يواجه قسوة الطبيعة بإرادة رجل جلد.. تعلمت من جبال " الرفاعة " رفعتها وشموخها ومن ثلوج الشتاء كيف يكون قلبها ناصع البياض، واتخذت من قسوة الطبيعة مثالا للحرص على راحة والديها.. هي الركيزة الخامسة في بيت له ثلاث جدران والرابع جذع شجرة بلوط.

في ليلة مقمرة جلست مركوندة قرب التنور وبجانبها أمها صاحبة الستين عاما.. تتسامران، تتحدثان عن حصاد اليوم من أخبار الجيران وأحوالهم، تمسك بيدها قطعة خشبية، ترسم أشكالا غريبة في رماد التنور، تحرك بها الفحم تارة وتنفخ فيه تارة أخرى.. كان الجميع غارقا في صمت يقطعه صفير الرياح في الخارج وثغاء النعاج في الزريبة، فجأة تتظاهر "مركوندة" بالإعياء، تخاطب أمها قائلة:

هل يمكنني أن أزور الطبيب هذا الأسبوع .؟! تفاجأت الأم بهذا السؤال وتلعثم لسانها.. نظرت إليها مستغربة وقالت: ويحك لو سمعك أبوك لذبحك.. لأحرقك.

.. تندهش الفتاة وتدفن رأسها في صدر أمها وقد امتلأت رعبا وبعد صمت قالت:

بل قولي سيطفئ الحريق الذي في داخلي، الموت أرحم من هذا السجن..

تنهرها الأم ملمحة:

لابد أن بك سحرا، لابد أنك أصبت بمكروه " فلانة " ـ تقصد جارتهم ـ تلك الحسودة التي تكرهنا..

تضحك الفتاة والأسى يعصر قلبها، ترفع رأسها معلقة:

المسحور من يسجنني في هذا القفص الأسود.. تذكر السواد وهي تخدش أديم التنور الأسود.. و تعود الأم إلى أيام شبابها.. تذكرت طقوس العائلة ورغبتها في الانطلاق.. وذلك الشاب الذي اقتحم حياتها بدون إذن، نظرت إلى ابنتها في شفقة وابتسمت بوقار أعاد الفتاة إلى عالمها وقالت:

أعلم أن مرضك لا يملك الطبيب دواءه..

فاستدارت البنت حياء وخجلا، وقالت محاولة تغيير الموضوع:

ترى إلى متى نبقى هكذا تائهين مثل تلال الصحراء لا تمل من التنقل مرغمة؟.. ترى إلى متى يبقى مصيرنا في أيدي غيرنا..؟.

تنهدت طويلا وسكتت محدقة في التنور تراقب شعاعا أرسله القمر عبر إحدى ثقوب السقف وراح يداعب بقايا الحطب المحترق، بدت وكأنها تحدثه قائلة:

أنت تشبهني، قد تسجنك السحب، لكنك تتحرر بين الفينة والأخرى، كلنا أسرى المجهول، كلنا ضحايا الجبروت.. حياتنا مربع يشكل أركانه الاستبداد .. الحياة كوخ أسود وفقط..

تصمت.. الرياح لا تزال في الخارج مصفرة، تحس الفتاة بثقل يغزو جسدها، تقاوم ثم تستلم، لقد غلبها النعاس، كانت متعبة جدا..

نامت "مركوندة" قرب التنور تجعل من أديم الأرض بساطا ومن سقف الكوخ لحافا، ومن التنور تمتص دفئا يغذي أحلامها.. تغيب الفتاة كشمس متعبة من الاحتراق، هناك حيث تستحم وتسبح في أحلامها اللذيذة بينما يدخل والدها عائدا من الحقل وينادي عليها بصوت جهوري فتتدخل الأم طالبة الهدوء موضحة بأن ابنتها مريضة..

يجلس الوالد قرب التنور يتأملها، كانت المرة الأولى التي يرى فيها ابنته طريحة الفراش.. يستفسر عن حالتها فتجيبه الأم بأن الطبيب وحده من يملك الإجابة عن سؤاله، يرمقها بنظرة غريبة طالبا منها إحضار الطعام، فجأة يسمع ابنته تتكلم وهي نائمة، كانت تغازل بن عمها وغريمه، لقد باحت بمكنوناتها رغما عنها، لقد علم الأب بالسر الذي طالما أخفته في صدرها،.. هكذا إذن يا ابنة الفحل .. كلمة قالها وهو يروح ويجيء غير مصدق بأن ابنته ترتكب المحظور ..

كيف لها أن تتكلم مع ابن الجيران؟ ثم من تكون هذه التي تجلب العار لوالدها بكل هذه الوقاحة؟، وكيف يكون موقفه مع الجيران عندما يعلمون …؟!،

أسئلة استعرضها في مخيلته وقد أخذ الغضب يسري في جسده حتى بدأ يرتجف، يسكت مرة أخرى مواصلا الاستماع إليها، كانت تبتسم في نومها وقد أصبحت كلماتها أكثر وضوحا، نائمة في صورة ميتة أو ميتة في صورة نائمة وقد تدحرج شعاع القمر نحوها وارتسم على وجنتيها مشكلا حلقة صفراء.. بدا وكأنه يقبلها، يعوضها حنان والدها الذي افتقدته منذ ولادتها، كانت ملاكا نائما وقد تعاظمت ملامح البشر على محياها وازداد دم الوالد غليانا.. ينهض من مكانه، ينظر يمينا ثم شمالا، يرفع عصاه وينهال على الفتاة ضربا وهو يصرخ في هستيريا المجانين..

صار هاكذا يا واحد الخاينة .. فاستفاقت من نومها مذعورة، تصرخ، تطلب النجدة، تهرع الأم لإنقاذها فتأخذ نصيبها من الضرب، بينما تتسلل البنت هاربة، وقد لاحقها الوالد بكلماته قائلا:

لن تعودي إلى هذا البيت مادمت حيا.. تهرب الفتاة في ليلة داجية، هائمة بين الوديان.. لأول مرة تحس أنها تملك حرية اختيار المسلك، حائرة تشق طريقها نحو المجهول، بين الفينة والأخرى تلتفت إلى الوراء علها تجد والدها يرجو عودتها موضحا الأمر، لكن طال انتظارها، هي حتى الآن تنتظر.

يوسف بن يزة ـ مركوندة 1993


- مركوندة: قرية بالأوراس الجزائري
- الكسرة: خبز الشعير
- الصرعوفة: قطيع الغنم
- الرفاعة: من جبال الأوراس

التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية