الأحد، 24 أبريل 2011

بقايا


مدخل:

الشجرة التي تغطي الغابة أضحت عارية، تفقد أوراقها ورقة، ورقة… أغصانها تعانقت، جذورها غزت أعماق الأرض تتشبث بأديمها..، تأبى الركوع، ترفع رأسها أبدا يغزو عنان السماء.. لكنها تفقد أوراقها مصفرة ذابلة، تسقط واحدة تلو الأخرى… الشجرة أضحت عارية والخريف يأبى الرحيل..

النص:.. خالتي حليمة هكذا كنا نسميها.. تأتي صباحا إلى الحي الجامعي تلتحف ملاءة سوداء… تستيقظ باكرا لتقطع مسافة بين مقر سكناها ومقر العمل حيث تقوم بأعمال التنظيف ثم تعود مساء وكلها نشاط وحيوية…

ذات صباح خالتي حليمة لم تأت وافتقد الحي ابتسامتها المميزة وهي تغدو وتروح كفراشة الربيع… ولأننا نحبها ذهبنا لزيارته…

نقطة سوداء تتراءى من بعيد أسفل حائط أبيض… نحن الآن في طريقنا إلى منزل خالتي حليمة، الطريق أمامنا يمتد كحبل لا ينتهي.. نتقدم شيئا فشيئا… النقطة السوداء أسفل الحائط تكبر وتكبر… شبح خالتي حليمة يظهر بوضوح… إنها هنا تسند ظهرها إلى الحائط… السواد يكسو جسمها المتهالك من رأسها إلى أخمص قدميها… ابتسامتها المعتادة غارت في أعماق حزن عميق يطبع تقاسيم وجهها الوقور والدمع يسري عبر تجاعيده وديانا تشق مساحات خديها المطبوعتين بأختام عقدها الخامس.. في حجرها طفل صغير تملأه الحيرة وهو يبحث عن حنانها الذي افتقده… خالتي حليمة لم تعد كما كانت.. هي كومة من الحزن تغطيها أسمال بالية… نظرت إلينا وأجهشت بالبكاء قائلة: أنتم أيضا أبنائي… شفتاها ترتجفان ويداها تداعبان شعر الطفل الذي بدا عليه أنه لم يفهم شيئا.. خالتي حليمة لا تزال هادئة والدمع لم يغادر مقلتيها.. فجأة.. يرتفع العويل وتتراص النائحات صفا يرددن كلمات مبهمة ذ.. الصراخ يزداد حدة.. الكل ينتحب… خالتي حليمة لا تزال هادئة مطأطئة رأسها وفي حجرها الطفل الصغير يهدهد بقايا قرص خبز الشعير بأطراف أصابعه ويقضم منه تارة… الضجيج يملأ الآفاق والأعناق مشرئبة إلى الطريق المؤدي إلى القرية..

من بعيد يتراءى موكب من السيارات تتقدمهم سيارة إسعاف وأخرى عسكرية.. الموكب يقترب في هدوء تستقبله القرية بضوضاء عارمة، امتزج النواح وصراخ الأطفال بنباح الكلاب… منظر ألقى هالة من الحزن على القرية التي تستقبل في هذه اللحظات فقيدا آخر هو الابن الثاني لخالتي حليمة الذي يلقى حتفه بهذه الطريقة… يصل الموكب، تنهض خالتي حليمة، ترفع عينيها إلى السماء وتطلق زغرودة رددتها الجبال طويلا حتى صارت الدنيا تزغرد… يصطف مجموعة من الجنود بزيهم الأخضر المهيب… منظرهم أيقض فيها ذكريات راحت تبحث عن تفاصيلها في بقايا ذاكرتها علها تجد السلوى وهي تستقبل ابنها في تابوت مسجى براية تناسقت الألوان لتجعل منها منظرا يشرح النفوس ويقهر هالة الموت التي تحوم على المكان.. خالتي حليمة لا تزال هادئة تذرف دموعا غزيرة دون أن تنبس ببنت شفة… أمر حير جميع الحاضرين.. تخطو باتجاه سيارة الإسعاف… الجنود ينحنون إكراما لها… ترفع الغطاء عن التابوت بهدوء وتجلد.. الطفل الصغير لا يزال ممسكا بطرف ثوبها، يقتفي آثارها.. تلقي نظرة وتبعث بصرخة من الأعماق… إنها العاصفة التي تلي الهدوء الحذر .. هالها منظر ابنها الذي استحال إلى بقايا جسم بشري جمعت أجزاؤه و ركمت في ثوب أبيض، فراحت تلطم خديها وتصرخ في هستيريا استجابت لها القرية فصار النواح يشكل سمفونية حزينة تملأ الأجواء… الطفل الصغير بدوره راح يبكي وهو يتتبع خطواتها العشوائية.. الجميع واقفون لا يبدون حراكا كأنهم تماثيل قدت من حجر الصوان.. أعينهم شاخصة وهم يتفرجون على هذه المسرحية التي أراد القدر أن يعيد عرضها في القرية وأن تكون خالتي حليمة بطلتها للمرة الثانية.. باقي نساء القرية ممن مررن بنفس التجربة وجدن الفرصة للتعبير عن مكنوناتهن … خالتي حليمة.. أم الرجال.. هكذا كانت تسمى، أضحت وحيدة رفقة الطفل الصغير الذي لا يزال يبحث عن هدوئها ليركن إلى صدرها، يمتص منه الأمن و الطمأنينة.. خالتي حليمة .. خنساء العصر.. فقدت ابنها البكر رفقة زوجها في حرب التحرير ومنذ شهور اختفى آخر ولم تعد تعرف عنه شيئا، وقبل أيام شيعت ثالثا إلى دار القرار وهي اليوم تعيد الكرة… إنها الشجرة التي تغطي الغابة، أضحت عارية، تفقد أوراقها ورقة ورقة.. أغصانها تعانقت.. جذورها غزت أعماق الأرض تتشبث بأديمها.. تأبى الركوع .. ترفع رأسها أبدا يغزوا عنان السماء، لكنها تفقد أوراقها، مصفرة ذابلة.. تسقط واحدة تلو الأخرى.. الشجرة أضحت عارية تفقد شرفها والخريف يأبى الرحيل… خالتي حليمة منذ ذلك اليوم لم تعد تأتي إلى الحي الجامعي، فهي تذهب كل صباح إلى مقبرة القرية .. هناك حيث تقضي اليوم مع عائلتها باكية تستأنس بذاكرتها لتقاوم وحشة المكان و الزمان، ثم تعود في المساء لإحضار ابنها الصغير من المدرسة وتبني على أنقاض الموت حياة بسيطة، يقودها شعاع ابنها الذي استحال إلى بقايا حلم لا تزال تناضل من أجل تحقيقه.

1996

التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية