الأحد، 24 أبريل 2011

أحاديث الصمت


حين نتوق للانعتاق، حين نشتاق، تغزونا الآهات.. تخوننا الكلمات، يتمرد الصمت و يخرج عن صمته.. تضيق بنا الفيافي، تهجرنا القوافي، تنطق الكلمات الخرساء وتضبط الألباب تأهبا ليوم الجلاء.

النص :

.. وتجلس الجدة برقلاح في الليلة التاسعة و التسعين بعد المائة التاسعة، تنبش في أعماق الذاكرة.. تعيدنا الآن إلى تلك الأيام التي أبت أن تغادر مخيلتها.. بوقار تنفض الغبار عن قصة امرأة كانت جارة لها.. المسكينة.. كلمة قالتها و تنهدت من الأعماق ثم استرسلت في سرد ذلك السيناريو المرعب.. خرجت من البيت يمتد الطريق أمامها كحبل لا ينتهي، واسع الصدر ضيق الأفق.. كانت ترنو في هدوء من استلبته اللحظة وقد استدارت الشمس تتخطى الأصيل ذابلة حزينة.. تخترق السحب كالسهم تستعجل الغروب.. منظر الشمس أيقض فيها ذكريات طالما حاولت نسيانها.. إنه الوداع يمارس طقوسه، تتذكر آخر مرة ودعت فيها زوجها.. كان مبتسما وقد ألجم الحديد كفيه وربطت يداه إلى الخلف .. اتركوه أيها الأوغاد॥ لم يكن بوسعها أن تفهم سبب اعتقاله.. تصرخ في يأس فلا مستجيب إلا الجبال تردد معها.. لم يكن بوسعه أن يكلمها و لا حتى أن يودعها.. بكت كثيرا.. تشبثت بأسماله.. استحلفتهم بكل شيء أن يتركوه، لكن شيئا لم ينفع.. كلمة واحدة سمعتها من أحدهم و هو يقول.. سيعود بعد أيام .. انتظرت طويلا و تلاحقت الأيام تقضم جسم الشمعة التي توقدها كل يوم فجرا أملا في عودته..
تجتر هذه الذكريات وهي تواصل سيرها بخطى متثاقلة كأنها في الطريق إلى المشنقة॥ تتنهد من الأعماق وقد سكنت الدنيا من حولها.. هي الآن في طريقها إلى مقبرة القرية.. هناك حيث يرقد زوجها منذ أعوام.. الطريق لا تزال طويلة و هي تشق التلال و الوهاد المنتشرة على امتداد سفح جبل "الرفاعة".. السكون يزداد وحشة لأول مرة تشعر بأن الهدوء يقلقها، و في كل مرة تخونها قدماها تأوي إلى صخرة ما على جانبي الطريق.. هناك حيث تلتهب ذاكرتها أكثر.. تتذكر زمن الصبا وأزهار الأقحوان.. تقطف زهرة ما .. تضمها إلى صدرها و تغرسها بين نهديها.. تتنهد مرة أخرى و هي تجول بناظريها عبر البطاح المجاورة وبذاكرتها في زمن الصبا.. كل شيء بقي على حاله إلا حالي أنا.. تكلم نفسها.. تهذي .. إلى أين؟ .. اتركوه.. من أنتم؟.. تقتحم الكوابيس ذكرياتها الجميلة، تستعرض في ذاكرتها صورة أحدهم و هو يقتاده إلى الخارج كالطير الجارح ينقض على فريسته.. تزداد سرعة دقات قلبها .. الغروب يدق أبواب الآفاق.. كل شيء على امتداد الطريق يلتحف هدوء حذرا.. ربما هو الهدوء الذي يسبق العاصفة.. تتمتم..أي عاصفة..؟.. تحاول طرد الخوف الذي استوطن داخلها.. لم تشك أبدا أن أحدا يلاحقها، الهوس يزداد اشتعالا في رأسها، وقد أبى الدمع مغادرة مقلتيها، البوم في كل مكان ينشد أراجيزه الممزوجة بنعيق الغربان।
وصلت إلى المقبرة وتخطت الأسلاك الشائكة واتجهت رأسا إلى قبر زوجها .. حركة ما هنالك كانت كافية ليتوقف قلبها عن النبض.. تشق طريقها بين الأجداث المهدمة وهي تنظر إليها خلسة.. إنها رهبة الموت॥لا بد أن لكل واحد منكم آمالا لم ينتظره الموت ليحققها؟ ॥ تسائل أهل تلك الديار في محاولة يائسة لاختراق الهدوء الذي يخيم على المكان॥ تصل إلى قبر زوجها.. تقبل رأسه بمرارة لأنها تعلم أنها لم تقبل رأسه وإنما رأس اللحد.. تضع الزهرة على صدره.. تخاطبه.. خذها .. إنها الميثاق الأول بين فلبينا .. وتحوم الذكريات مرة أخرى على ذاكرتها و يمتزج أسى الحاضر بفرحة الماضي.. ويتحرر الدمع سكيبا من مقلتيها، نبعا صافيا يسقي الحشائش التي نمت على اللحد.. تترجاه أن يقول شيئا.. اسمع
هاأنا ذا أسقي هذه الأرض بدموعي بعد أن سقيتها بدمائك، سيعلم الأوغاد بأن سيل دمائنا سيجرفهم ولو بعد حين.. تغيب الشمس و تبقى أشعتها مرتسمة في أعالي الجبال.. تحس بشعور غريب ينتابها.. تنتبه من غفلتها.. يقترب منها ثلاثة ملثمين.. يبادرها أحدهم بطلقة بين عينيها.. تصرخ.. لا .. لا.. وتخطفها الجبال من فمها لتبقى ترددها إلى الأبد.. تسقط على قبر زوجها فينتفض ليحتضنها و تختمر ذاكرتها بتلك الصورة.. تبتسم و هي تحتضر قائلة.. ستجرفكم دماؤنا و لو بعد حين.. تلفظ أنفاسها الأخيرة بينما بقيت أذناها تلتقطان صدى الجبال.. لا .. لا ..لا وتسكت الجدة برقلاح عن الكلام المباح بعد أن بدأت الدموع تتجول عبر أخاديد وجهها الوقور.

التسميات:

1 تعليقات:

في الأربعاء, أبريل 04, 2012 , Blogger ن.مريم نريمان يقول...

راااااااااااااااائعة ..

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية