السبت، 23 أبريل 2011

أطلال العودة


॥لقد انتحر وأخذ معه أسباب انتحاره ॥ جملة ترددت طويلا على ألسنة أهل القرية في ذلك الصباح الذي يطبع تقاسيمه ضباب اكتسح القرية بعد أن تحصن طويلا وراء الجبال المجاورة، كأنه الفناء يهاجم الوجود، ودعت القرية ليلا حالك السواد لتستقبل ليلا أدخلها في حزن عميق على ذلك الفتى الذي افتقدته دون سابق إنذار॥ كان ذا وجه حزين ينبئ عن روح هادئة.. عاد إلى القرية من إحدى مدن الغرب الجزائري حيث يواصل إتمام واجبه الوطني في أداء الخدمة العسكرية، امتطى صهوة الخوف واخترق أفاق المجهول على امتداد الطريق الطويلة .. الفرق بين الموت والحياة لا شيء.. الفرق بين الأمل واليأس لا شيء ..

قد أجدهم في الطريق عندها ماذا سأفعل ..؟! هل أقول لهم بأنني أعمل "مونيفري"؟! أو أقول لهم بأنني أشتغل في تهريب السلع " ترابانديست" ..لا..لا.. سيحفظني الله كما اعتاد أن يفعل ولن أجد شيئا في الطريق لا حاجزا مزيفا ولا حقيقيا .. الواقع أن الفريق بين الزيف والحقيقة لا شيء .. وتنسحب من مخيلته الكوابيس لتطفح صورة حبيبته واضحة كأنها القمر يتوسط كبد السماء ليلة اكتماله، يفتح ثغره باسما ويسند رأسه إلى مؤخرة الأريكة بينما لا تزال الحافلة تطوي الطريق طيا وقد انقضى من الليل ثلثاه.. هاأنت الآن أمامي، وهاهو وجهك الطفولي يشع نورا.. أتعلمين كم أنا مشتاق لألمس تلك التقاسيم .. أتراك ما تزالين على العهد..؟!، أتذكر الآن آخر كلمة قلتها .. أنا في انتظارك .. هل أجدك في المحطة صباحا تنتظرين ..؟!
إلهي كم أود أن يطير بنا هذا السائق..
يعود ليطلق العنان لخياله يجول بعيدا، وتتراءى له صورته في المستقبل وقد أكمل مدة العامين وتزوج بمن يحب وهاهو الآن يعيش في النعيم.. فجأة تبرز صورة أبيها لتشغل كل الفضاء الذي فتحه لأحلامه واستعادت أذناه كلمات ذلك العجوز الأخرق وهو يطرده من أمام بيته.. - اعلم يا ولد الناس أنها لن تصير إليك ولو بقيت في فمي سن واحد.. - آه أيها الملعون سأكسر فمك ولن تبقى فيه سن واحدة وسآخذها شئت أم أبيت..
ينتفض في مكانه وقد صعد الدم إلى وجهه وتقلصت عضلاته وبدا غاضبا، مما أثار انتباه المسافرين إليه.. خاطبه أحدهم.. هون عليك يا أخي ما تزال الطريق طويلة.. فجأة يخفف السائق من السرعة بشكل أثار انتباه الجميع وفي حركة غريبة هبوا ينظرون إلى الأمام وبكلمة واحدة قالوا… هل هم في الطريق..؟!! وتصعد روحه إلى السماء ثم تعود في طرفة عين عندما أكد السائق بأن في الطريق حيوانات أليفة ولا شيء غير ذلك.. هكذا قدر لنا أن نموت ألف مرة .. إن الذي في مثل حالنا يحق له أن يعيش الدهر كله.. لا قيمة للموت بالنسبة للذي يموت عدة مرات في ليلة واحدة ..لا.. لن أموت، سأحيا من أجلها وإلا فسأموت من أجلها وليس هناك شيء آخر يستحق أن تزهق روحي من أجله.. يستسلم للنوم حيث الأحلام الجميلة، والكوابيس المزعجة تشكل تناقضا منسجما يجعله في حيرة مستديمة ॥ يستفيق وقد وصلت الحافلة إلى المحطة الأخيرة قرب قريته وقد أشرقت الشمس تحاول أن تجد طريقها إلى الطبيعة من خلال فلول السحب المتراكمة هنا وهناك يحمل حقائبه بعد أن تأكد من وجود عقد ثمين كان قد وعدها به وراح يحث الخطى عبر طريق طويلة تشق وديانا وتلالا كانت بالنسبة إليه حصونا يجب عليه أن يقتحمها..كيف لا وبعد ساعة سيلاقي حلمه الجميل.. يمشي في طريق غير معبدة وهو يسترق السمع ويتجسس على الطبيعة.. كل حركة ما على جانبي الطريق تثير فيه ألف علامة استفهام..
قد يكونون هنا فأنا صيد ثمين.. لكن لا أحد يعلم بعودتي. كان هذا هو عزاؤه الوحيد والحافز الذي يدعوه للسير باطمئنان وفي الطريق كان يلتقي أهل قريته قادمين إلى محطة الحافلات للتسوق فيحييهم بطريقته المعتادة متمنيا لهم طريق السلامة.. يصل إلى القرية وكله لهفة لمعرفة الجديد الذي يكون قد طرأ عليها، وبدل أن يتجه إلى بيت أهله مباشرة اختار أن يسلك طريقا أخرى حيث يمر على بيت حبيبته، وكم كان شوقه يلتهب وهو يهفو لرؤيتها في الحديقة تقدم الطعام للدجاجات أو تقوم بنزع الحشائش الضارة من المزروعات، كاد يطير شوقا إليها.. فجأة تنطفئ تلك الشعلة عندما رأى أباها هو الذي يقوم بذلك وقد استقبله على غير عادته بابتسامة بدت كأنها صادقة وراح يعرض عليه فنجان قهوة قبل مواصلة السير، كانت تلك الفرصة التي لا تعوض من أجل أن يرى حلمه الجميل.. ارتشف القهوة وهو يقلب نظره بين الباب والنافذة عله يلمح طيفها، لكن دون جدوى..
يحمل متاعه مرة أخرى مواصلا الطريق وقد أحس وكأن طفلا اختنق بداخله وامتلأ رأسه باستفهامات إن تحقق أدناها فسيكون حتما نهايته॥ يصل إلى بيت والديه فتستقبله أمه بالأحضان بينما حياه والده وأخذ مكانه على حائط الحوش للحراسة .. يجلس بجانب أمه صامتا كعادته وقد أقبل عليه إخوته يحيونه ثم فتح الحقائب ليسلم لكل واحد ما أحضره له وما إن رأت الأم العقد الثمين حتى انقبضت بشكل أثار انتباه الولد، وكانت تعلم كامل قصته مع بنت الجار.. يبادرها بالسؤال .. ماذا حدث..؟! قولي.. أجيبي.. احتارت الأم وتمنت لو تنشق الأرض وتبتلعها على أن تواجهه بالحقيقة .. صمتت برهة بينما راح هو يكيل أسوء الاحتمالات وقد تبدل لونه وأخذ يقلب العقد بين يديه، ولم تجد الأم بدا من مصارحته..
تعلم يا ولدي أن "المكتوب" لا جدال فيه .. لقد زوجها أبوها بابن عمها عنوة و أقاموا العرس الأسبوع الماضي .. أظلمت الدنيا في وجهه وأحس بعقدة عميقة تخرس لسانه وبدأت دمعتان تتجولان عبر تقاسيم وجهه.. هكذا ينهار كل شيء في لمح البصر، ينظر إلى ذلك العقد الماسي وهو كالمخمور لا يدري ما يفعل أو ما يقول .. يدخل والده .. انهض يا ولدي لقد أظلم الليل، ولا يمكنك أن تبيت هنا .. إن في كومة التبن مكان اعتدت أن أبيت فيه فهو آمن .. تصبح على خير .. بدون رد ينهض.. يتفرس وجه أمه .. تنهض محاولة مواساته.. إنه المكتوب يا ولدي ॥ يعطيها العقد.. خذيه إنه لك .. يخرج وهو لا يدري إلى أين.. يخطو يضع خطوات ثم يتوقف..
إلى أين ..؟! أنا هارب من الموت إلى أين.. ؟! الموت أرحم من هذه الحياة .. نعم الموت هو الوسيلة المثلى لاستثمار الحياة… الحياة التي لم يعد هناك سبب لوجودها .. لقد عشت من أجلها وتحديت الموت ألف مرة والآن تذهب لغيري .. أبوها.. أمي.. أبي، كل القرية ساهمت في انتزاعها مني.. .. أخرج ورقة وكتب .. أخبروها بأني عشت من أجلها وبأني أتمنى لها حياة سعيدة.. وبدل أن يتجه إلى كومة التبن اتجه إلى البئر ووقف على حافتها يسترجع أجمل لحظات عاشها .. ينظر إلى هوة البئر العميقة ويقول في يأس .. النوم هنا سيكون أحسن، ويقفز معلنا عن نهايته بصرخة انتبه لها جميع من في القرية.

التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية