السبت، 23 أبريل 2011

الهوس


نتم الآن تقرؤون، تفكون رموز الطلاسم المرسومة على هذا البياض الناصع، أنتم الآن تمارسون السياسة لأنكم تقرؤون ॥ منذ قليل كنت بالمقهى الذي بجوار بيتنا.. في مكان قصي كنت جالسا قرب طاولة حولها أربع كراسي، الكرسي الخامس كان يئن من ثقل جثتي.. في المقهى أناس كثيرون كأنهم النمل يمارس طقوسه.. الضجيج يمتد إلى الحي المجاور، حول الطاولة المجاورة جلس أربعة شيوخ، الخامس كان واقفا لأنه لا يملك كرسيا، كانوا يتفننون في لعب " الخرقبة" وهي لعبة الشطرنج التقليدية.. على الطاولة الأخرى خمس شبان في يد كل واحد سيجارة.. تتعالى قهقهاتهم بين الفينة والأخرى .. شاب آخر كان يغازل صورته في المرآة المقابلة، وفي الجهة الأخرى أناس كثيرون، أراهم لكن لا أبصرهم।
في ركن مظلم علق مذياع صغير أسود اللون، كان يصدر صوتا خافتا لا أحد يصغي إليه، الكل مشغول ॥ كنت جالسا وحدي صامتا كعادتي.. تقابلني أربع كراسي شاغرة.. غاب عني الأصدقاء في هذا اليوم الربيعي، ولا أحد تجرأ على الجلوس معي، أخرجت جريدة من جيبي كنت قد أحضرتها عند عودتي من المدينة.. فتحتها ورحت أتصفح العناوين .. فجأة .. يلتفت الجميع … ينظرون إلي بعيون زجاجية لا تعرف حراكا.. آخرون يستعيذون بالله وآخرون ينصرفون من المقهى.. لم أجد تفسيرا لكل هذه التصرفات، طويت الجريدة ورحت أتفقد هندامي، ربطة العنق لا تزال تخنقني، اتجهت إلى المرآة .. لا شيء غير عادي، سألت أحدهم … ماذا حدث…؟! فلم يرد علي، عدت إلى مكاني وكلي علامات استفهام، أعدت فتح الجريدة فازداد الصخب من حولي وتعالت الصيحات .. إنه يمارس السياسة .. لا شك أنه جاسوس اقتحم قريتنا..؟! طويت الجريدة بسرعة وأخفيتها عن الأنظار، وقد نال مني الخوف كل منال حتى بدأ قوامي يرتجف .. لحظات ويعود الهدوء إلى القاعة الفسيحة الأرجاء، وقد تفطن صاحب المقهى لوجودي وجاء يسألني أي المشروبات أفضل، فطلبت منه فنجان قهوة وكوب ماء لأهدأ من روعي..

عاد الجميع إلى أماكنهم مواصلين أحاديثهم وعدت أنا إلى تفكيري، كنت أحاول أن أجد تفسيرا لما حدث.. أهل قريتي لم تكن هذه التصرفات من سيماهم في الماضي القريب.. لم يتعودوا إظهار هذه العنجهية في التعامل مع الآخرين.. كنت أبدوا في نظرهم كالخارج عن القانون، لأنهم لا يؤمنون بالجريدة ولا بما تكتبه الجريدة، كان قدري أن أتحمل مسؤولية الوعود التي أخلفها صناديد السياسة الذين زاروا القرية منذ أعوام.. كنت ذلك الشبح الذي لا يأمن شره أحد، وإلا كيف أفسر عدم جلوسهم معي على الكراسي التي كانت بجانبي.. وحتى لا أتهم بالزندقة قررت أن أخلع ملابسي التي اشتريتها من المدينة وأعلن عن رجوعي إلى جادة الصواب الذي يرضيهم .. وأن أضع طاقية على رأسي الأصلع وأنزع عني البذلة التي أبدت عورتي بينهم.. وألبس البرنوس.. ذلك اللحاف الأبيض الطاهر طهارة قلوبهم الكبيرة …
بينما كنت أهيأ نفسي لتنفيذ ما قررته، حدث شيء ما هنالك فاهتزت المقاعد وبدأت تتراقص بين الأرجل واتجه الجميع نحو المذياع الصغير يستقصون الأمر والجميع يطلب السكوت من الجميع .. عادت دهشتي ونسيت ما كنت أفكر فيه.. بقيت وحدي جالسا مشدوها مفتوح الفم لا أدري ماذا أفعل أو ما أقول.. أنادي على أحدهم فلا يلتفت إلي.. أبحث عن صاحب المقهى فلا أجده.. خارج المقهى بدا كل شيء غير عادي.. تسارعت حركة السيارات في الشوارع وازداد الضجيج حدة.. لم تكن إلا لحظات حتى وجدت نفسي كالعادة وحدي لكن هذه المرة في المقهى كلها.. .. في الركن المظلم لا يزال المذياع معلقا يبث موسيقى الناي الحزينة، تلك التي كان يعزفها جدي في الحقل عندما يتذكر أيام شبابه.. أنهض عن الكرسي، أعيده إلى مكانه، تسقط الجريدة من جيبي فأتركها وأخرج من المقهى مهرولا.. أستطلع الأمر.. ومرة أخرى أسأل أحد المارة .. ماذا يحدث..؟! فيبعدني بيده عن طريقه وهو يواصل سيره الحثيث، أعود لأسأل نفسي.. هل أنا شبح ؟ لا.. لا.. أنا أمام مقهى ( عمي عمار)، وذلك باب بيتنا لا يزال مغلقا॥ تقترب مني سيدة تبدو عليها علامات السفر، أسألها إن كانت تعلم شيئا فتجيبني بأنها مثلي لا تدري ما الذي يحدث… يمر أمامنا أحد الشباب الذين أعرفهم॥ كان راكبا على دراجته.. أناديه باسمه فلا ينتبه إلي.. فجأة يسقط في إحدى الحفر التي في الطريق فينهض بسرعة محاولا إخفاء آلامه.. يركب دراجته مواصلا طريقه إلى حيث يريد… أطرقت هنيهة، أحاول أن أتمالك نفسي.. وتعود الاستفهامات إلى رأسي.. حاولت أن اربط ما يحدث الآن بما حدث لي في المقهى مع أهل القرية فبدأت أشك في أنني سبب كل ما يحدث… هل أنا حقيقة شبح؟…لا…لا.. السيدة التي كلمتني منذ قليل لم تكن خائفة مني.. أنا إنسان مثلهم.. لكنني لا أعلم سبب نفيرهم هذا… مرة أخرى أجد نفسي وحيدا.. هذه المرة في الشارع بأكمله.. ركنت السيارات إلى مرابضها ودخل الناس بيوتهم وأوصدوا الأبواب، وقد استدارت الشمس تتوسط كبد السماء.. ساد الهدوء في الشارع وقد اشتد القيظ يملأ الأفق دفئا يخترقه نسيم ينبعث من الجبال المجاورة.. ازدادت لهفتي لمعرفة سبب ما حدث وما يحدث، اتجهت رأسا إلى بيتنا.. أطرق الباب.. أنتظر طويلا.. تفتح والدتي متثاقلة.. أبادرها بالسؤال.. كيف الأحوال فتجيبني وكأنها تخفي شيئا.. كما ترى يا ولدي.. أدخل غرفة الاستقبال.. أجد جميع اخوتي ووالدي حول التلفاز، جامدين كأنهم تماثيل قدت من حجر الصوان، أعلق على هذا المنظر في استهزاء ..أنتم أيضا في حالة استنفار ..! فيلتفت الوالد وعيناه مغرورقتان بالدموع قائلا.. اجلس يا ولدي لقد حدثت كارثة لقد مات الرئيس، جلست وقد تلاشت جميع الاستفهامات التي احتلت رأسي منذ الصباح। أسندت رأسي إلى مؤخرة الأريكة أتنفس الصعداء بعد أن تأكدت بأنني الوحيد الذي لا يمارس السياسة।



1994

التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية