الأحد، 24 أبريل 2011

فيض المداد


مدخل: عندما تجف العقول تنسج العنكبوت خيوطها على أديم المرآة



النص:

في البدء: كانت هناك أوراق مبعثرة، على طاولة خشبية يكسوها غبار الطلع المتسلل عبر النافذة من الحديقة المجاورة.. عبر النافذة امتداد يستدرج الأنظار إلى جبال تحرس المدينة.. تلتحف الجلال صامدة في ذاك المكان منذ الأزل.. على الطاولة مذياع صغير وبجانبه قلم وورقتان، واحدة موشومة بالسواد والأخرى عذراء تغري اليراع الرابض بقربها.. كان المذياع الصغير يبث أشجان موزار في سمفونيته التاسعة، فجأة أوقف برامجه وراح يرتل.. سيداتي وسادتي جاءنا الآن ما يلي.. اكتسحت فيضانات عارمة مختلف أحياء المدينة فأغرقتها في الوحل وخلفت ضحايا ومنكوبين.. هذا وقد أعلنت القيادة العامة تشكيل خلية أزمة لمتابعة الأوضاع عن قرب، بينما وصلت بعثة أجنبية إلى مطار المدينة للبحث عن مصدر السوائل الغريبة التي أوقعت الخراب بباحات المنازل وأحالت ساحات المدينة إلى يباب في لحظات.. وعادت أشجان موزار لتشنف الآذان مرة أخرى..

خارج الغرفة كان الجفاف يضرب بأطنانه بين تلافيف العقول.. قال الشيخ مسعود إمام مسجد الضاحية الجنوبية في خطبة الجمعة.. اللهم ارفع عنا غضبك.. اللهم لا تعذبنا بما فعله السفهاء منا، وبعد الخطبة وقف في الناس وقال.. أيها الناس دعوا سحابات الكدر تغادر قلوبكم لتمطر غيثا يعيد الحياة إلى الحرث والنسل.. أيها الناس لقد سالت دماؤكم.. فأصبح ماؤكم غورا وأقلعت سماؤكم عن البكاء..

بعد الصلاة تجمع الخلق خارج المسجد والحيرة تملؤهم.. آخرون تاهوا وسط الأوحال يبحثون عن أغراضهم.. كان السؤال الذي شغل تفكيرهم.. من أين قدمت كل هذه المياه الزرقاء والسماء زرقاء؟.. البعثة الأجنبية خانتها وسائلها التكنولوجية الحديثة وأرسلت تقريرا إلى السلطات العليا تعلن إخفاقها في تحديد مصدر المياه الزرقاء.. كانت الشوارع تسبح في بحر لجي.. وفي الشارع الرئيسي سار أحد الدراويش ينادي في الغادين والرائحين.. فكوا عقال هذا المسكين تنجلي عن بصائركم ظلمات الليل والنهار.. فكوا قيده وإلا أتاكم الطوفان من حيث لاتدرون.. وتعجب الناس من كلام الدرويش.. من ذا الذي يغرق المدينة ببطء ولا يعرف مكانه غير هذا المخبول.. وصار الدرويش يلفت الأنظار إليه بنداءاته التي ملأت ما بين الخافقين..

انسل الناس من كل فج عميق وساروا خلف الدرويش الذي فتح بابا بقرب مسجد الضاحية الجنوبية ودخل رفقة عمدة المدينة والشيخ مسعود.. بعد لحظات عاد وفي يده قلم ينزف وفي الأخرى ورقة بيضاء، عذراء من قوم عيسى.. اعتلى منصة وخطب في الناس يقول.. أيها المجانين.. هذا قلمي وهذه حبيبته.. كان يعانقها بين الحين والحين.. الآن طلقها بالثلاث رغم أنفه.. حرام عليكم أن تبثوا الشقاق بين حبيبين.. حرام عليكم أن تسجنوا عصافير الربيع وتجتثوا رنين الحياة من أفئدتها الصغيرة.. أيها المجانين دعوا هذا اليراع يحيا، اتركوه يمارس طقوسه، دعوه يؤلف بين السبابة والإبهام.. أيها المجانين.. هذا قلمي ينزف بدمي.. ستجرفكم سيول مداده إن أبعدتموه عن معشوقته.. إنه ينزف.. أرجوكم فهذا زمن نوح يعيد الكرة مرة أخرى.. على أديم المرآة نسجت العنكبوت نسيجها وأضحت صورة الدرويش من وراء خيوط العنكبوت كالسجين في زنزانته.. وعلى أديم الورقة العذراء قرأ الناس كلمتين.. أحبك ولكن.


التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية