الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

بنت الثرى


على امتداد متناه ترقد مدينة ليست كباقي المدن … المدينة يسكنها الصمت منذ أمد بعيد.. ساكنوها يربون يوما بعد يوم.. يرحلون إليها في لحظات.. لكنهم لا يغادرونها أبدا.. المدينة الصامتة تختنق بالوافدين إليها.. لا أزقة فيها ولا شوارع.. لا مقاهي ولا سيارات لكنها تعج بالشعراء والتجار والسياسيين.. والعاهرات.. لها في قلوب الناس مكان يبعث الرهبة في النفوس وفي قلبها مكان للناس يحملون إليه كلما خبت أنفاسهم.. يسمونها الرمانة.. ربما لكثرة حبها و تراصه صفوفا صفوفا.. لكنه بلا طعم ولا رائحة .. إلا طعم الفناء و رائحته.


* * *

في مكان ما من المدينة الصامتة يقع بيت سارة الجديد.. في البيت جسد يلفظ آخر أنفاس نعومته.. الجسد جسد سارة، أما روحها فهي ترفرف في الأجواء العالية تراقب حركات وسكنات محمود.. هذا الواقف بباب بيت سارة الجديد..
في ذهن محمود كلمات علقت به كانت أذناه قد تلقفتها من شريط سمعي استعاره من أحد الأصدقاء .. الشريط بعنوان عذاب القبر.. على لسان احمد القطان انسلت الكلمات تتجول في ذهن محمود وكأنها مسامير تدق في رأسه..
هنا سجن الأجساد الأبدي.. هنا نهاية كل ملمس ناعم.. هنا مقبرة النهود البارزة و الخدود الموردة.. هنا نهاية كل حلم وبداية المواجهة مع الحقيقة … الحقيقة .. كلمة أعادت محمود إلى حاضره.. أنقذته من عذاب شريط عذاب القبر، فاستغفر الله العظيم مرددا بصوت مرتفع.. رحماك ربي إني كنت من الظالمين.


* * *

على باب بيت سارة وقف شاب في مقتبل العمر فارع الطول أزرق العينين تعلو هامته غمامة حزن عميق غائر في وجدانه… محمود الابن البكر لـ "سي علاوة" شيخ قبيلة " أولاد عيسى" لم يعرف الحزن والكدر طريقه إلى قلبه من قيل.. كان يعتقد بأن الحزن حكر على الفقراء وأبنائهم ومنهم سارة التي راح يرثيها بكلمات مبحوحة…
أنت الآن في هذا المكان المقفر تتوسدين التراب.. تشغلين شبرا من أرض الله الواسعة.. تغطيك أطنان من التراب والحصى.. توسمك ثلاثة شواهد تدل على أنك امرأة.. لم تكوني امرأة وحسب.. امرأة ونصف كما يقولون…
الآن أنت بقابا حلم جميل لم يعد يغزو مضجعي… كلمات متقطعة قفزت فجأة من لاوعي محمود وهو يتأمل بقايا اللحد الذي استحال إلى مزرعة و في موضع القلب نبتت زهرة فريدة في المنطقة لم تلبث أن ذبلت تحت ضربات الشمس القاسية.


* * *

كمن يكلم أحدا استرسل محمود في مضغ ألفاظ مبهمة ممزوجة بملوحة الدمع الرقراق المنهمر من مآقي متعبة.. لابد أنك تستغربين هذه الزيارة المفاجئة.. أنا قادم إليك في مهمة محدودة..
لن أتلو على مسامعك هذه المرة قوائم ممتلكات أبي وشرف وسمو حسبي ونسبي.. لن أطاردك من شارع إلى شارع .. في النهاية لن أخطب ودك هذه المرة .. تريدين الحقيقة .. ليتني أجد فرصة لفعل ذلك مرة أخرى .. لكن جئتك فقط لأصارحك بالحقيقة ..
الحقيقة أعادت محمود إلى حاضره، أنقذته من عذاب اجترار تلك اللحظات المؤلمة.. في هذه اللحظات انتبه إلى ذرات ترابية بدأت تتحرك على اللحد.. أصيب بانقباض شديد.. تسارعت دقات قلبه.. هم بالفرار.. فكر في الاتجاه شمالا.. لا جنوبا.. بل شرقا.. محمود محاصر باللحود من كل جانب والفرار بتلك الطريقة سيكلفه حتما الدوس على هذا اللحد أو ذاك وذلك كفيل بشل قدميه من أثر الخوف.. لذلك عالج قدمه اليمنى باتجاه اليسار للتخلص من شحنة الرعب التي انطلقت من مخيلته وانتهت عند أخمص قدمه.. حاول تحريكها لكن دون جدوى.. لقد شلت بالفعل .

كالتمثال وقف محمود فاغرا فهمه جاحظ العينين لا يدري ما يقول أو يفعل .. ينظر إلى موضع الذرات الترابية المتحركة خلسة.. فكر بأن سارة ستبعث الآن من مقامها بين يديه.. أحس بمزيج من الفرحة والخوف جعلا قوامه ترتجف..
ذهب بعيدا بخياله لما قدر بأن لعنة ستحل به إن لم يغادر المكان.. استعاد في ذهنه الأساطير المتداولة عن صمت المقابر والقبور، أحس بعقدة عميقة تخرس لسانه ، لكنه لم يقو على فعل أو قول أو أي شيء آخر .. لحظات كالدهر مرت وهو لا يعرف حراكا استفاق منها على صورة نملة أزاحت حبيبات الرمل بعد جهد جهيد وصارت تتجول على مساحات اللحد.. بهت الفتى مما رأى وانبلجت في أفقه أبواب كانت موصدة وعادت الحركة إلى رجليه وانجلت عن وجهه تباشير اصفرار أحالته إلى ثمرة بطيخ متعفنة… استعاد محمود الثقة في نفسه وراح يتأمل النملة .

بخفة كبيرة ورشاقة لا توصف.. قدمت النملة السوداء عرضا بارعا ذهابا وجيئة.. سلبت به مدارك الفتى فنسي ما كان فيه ولم يعد إلى حاضره إلا بعد أن مد ناظريه في أفق المدينة الصامتة فطبعت في مخيلته صورة اللحود المرصوفة بانتظام وتذكر مع الصورة صوت أحمد القطان وهو يصدح بكلماته " هنا نهاية كل حلم وبداية المواجهة مع الحقيقة " .. الحقيقة كلمة استفاق من غفوته على وقعها، وتذكر النملة وسارة النائمة إلى الأبد تحت الردم .. كانت النملة تواصل سعيها بين رأس اللحد وقدميه… سلوك الحشرة أثار استغراب الفتى وقفزت إلى ذهنه أفكار غريبة عن تناسخ الأرواح.. هل يمكن أن تتقمص روح سارة جسد النملة مهمل الكتلة..؟ أيعقل أن تكون سارة قد أرسلت هذه النملة لمقابلتي ..؟.

أسئلة شغلت باله هنيهة من الزمن استفاق منها على حقيقة أخرى انسابت على لسان أحمد القطان في شريطه السمعي " احرص يا فاتن العقل بالجسد أن يصير جسدك مرتعا للدود و النمل وهوام الكائنات.

لم يكن محمود ذلك الفتى الطوباوي الغارق في غريب الأفكار وشاذها.. ولكنه انساق وراء ما أملاه الموقف الجلل وهو واقف على قبر سارة بين المئات من القبور المهدمة " احرص يا فاتن العقل بالجسد أن يصير حسدك مرتعا للدود والنمل وهوام الكائنات "..
كلمات كاللكمات راحت تدك بقايا وعي عالق في ذهنه.. وهو يضرب الأخماس في الأسداس.. سابح في حيرة قاتلة بين أن تكون سارة قد صارت نملة أو أن تكون النملة قد صارت سارة.. في كل الحالات كان عليه أن يتصرف.. استجمع ما تيسر لم من حصاد السنين من شجاعة وإقدام..
مد يده يروم الإمساك بالنملة.. أحس بحاجز يعترضه.. تراجع إلى الوراء.. أعاد الكرة.. لمس النملة.. اغتاضت النملة وراحت تهرول في كل الاتجاهات خبط عشواء… استنجد بما تبقى من روح المقاتل التي تسكنه منذ الصبى..
أمسك بالنملة.. وضعها في راحة يده اليسرى، أطرق هنيهة وتذكر قصة لجحا كان قد مر عليها في إحدى السنوات الدراسية.. طرح سؤالا غريبا مستوحى من القصة ذاتها وأسطورة تناسخ الأرواح مازالت تتحكم في مسار تفكيره.. طيب إذا كانت هذه سارة فأين النملة.. وإذا كانت هذه نملة فأين سارة..؟.

لم يفرغ من طرح السؤال حتى زاغت عيناه باتجاه اللحد الذي تكسوه هالة من الخشوع و الصمت… المنظر قذف الرعب مرة أخرى في نفسه بينما تناهت إلى أذنه أصوات غربان بدت وكأنها تراقبه من بعيد.

غير بعيد عن مدينة الضوضاء و الصخب.. تقع المدينة الصامتة.. في المدينة الصامتة مئات أو آلاف البيوت العتيقة والحديثة.. المهدمة والحديثة المرصعة بآخر صيحات الآجر الرخامي…
بين هذه وتلك يقع بيت سارة.. هكذا أصر محمود على تسمية قبر فتاته بعد أن أقنعه شريط أحمد القطان بأن الدنيا هي دار الفناء والآخرة دار للبقاء.. في راحة محمود ما تزال النملة مطمئنة إلى نعومة ملمس تلمعه حبات العرق وفي ذهنه تفاصيل الكارثة التي أرسلت سارة إلى هذا المكان..
فكر بأن الفتاة تود معرفة الوجه الأخر من الحكاية.. فجأة تحركت النملة.. أحس محمود بوقع أقدامها.. قفزت فجأة إلى وعيه فكرة أذهلته.. ربما تكون النملة أيضا معنية بالحكاية.. ودونما تأخير أنشأ يقص التفاصيل على أمل أن تنقلها النملة إلى سارة النائمة في اللحد الذي تحت.. كان ذلك ذات خميس.. كنت كالعادة جالسا أمام مقهى الحي.. أرتشف فنجان قهوة مركزة.. الساعة كانت تشير إلى منتصف النهار تماما… كان صوت النشيد الوطني ينبعث من الثانوية المقابلة.. لحظات مرت خبا فيها صوت النشيد وطفا إلى الأجواء صوت ضجيج التلاميذ وهم يغادرون الثانوية في أول يوم من العطلة الصيفية.. المناسبة مميزة بالنسبة للجميع أما لي أنا فكانت مفرحة ومحزنة في الوقت ذاته، محزنة لأنه آخر يوم أرى فيه طيف سارة التي كنت أرقب خطواتها من ذلك المكان طيلة ثلاث سنوات.. ومفرحة لأنني قررت في ذلك اليوم مصارحتها بالحقيقة..كنت أهفو لرؤيتها وهي تتأبط محفظتها أو معطفها البني… فجأة يتراءى طيفها من بعيد.. أنهض من مكاني.. اخطوا للأمام.. أقف على حافة الطريق .. أنتظر خلوه من السيارات المتزاحمة.. كانت تقف على الحافة الأخرى للغرض نفسه… كنت أنظر إليها وكانت تنظر إلي…
نظرات شوق ولهفة كانت تغادر مآقي كالسهام ونظرات حيرة واستفسار كانت حبيسة عينيها العسليتين.. صدقيني لا أعرف كم دام هذا المشهد الذي أسكرني وأحالها إلى علامة استفهام واقفة على حافة الطريق.. شعور غريب كان يجتاحني حتى خلت الطريق نهرا جارفا يحول بيني وبينها …
بدت مستعجلة .. مدت خطوة.. تراجعت على إيقاعات بوق حافلة مستعجلة.. تعيد الكرة وقد أحست بنظراتي إبرا تغرز في جسدها.. بتوتر واضح تقطع الطريق هذه المرة.. تسرع الخطى.. تمتد المسافات.. تلوح في الأفق سيارة مرسيدس.. عيناي تفقدان التوازن.. عين على سارة الهاربة من نظراتي في اتجاه المجهول وعين على المرسيدس البيضاء… يستبد بي القلق.. تمتد المسافات من جديد..سيارة المرسيدس تتحول إلى سهم يقترب من سارة.. أنادي عليها وقد أوشكت على اجتياز الجزء الأول من الطريق السيار …سارة .. سارة …تلتفت إلى.. تقف على مترين من نهاية الطريق.. تنظر إلي والحيرة ما تزال تطبع تقاسيم وجهها.. تصدمها السيارة.. تقذفها بعيدا كالقشة البالية.. تسقط على الإسفلت.. تترنح.. تتخبط كالعصفورة المذبوحة.. أسرع إليها متحديا سيل السيارات المنهمر… آه يا حظي التعيس.. كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة و الدهشة ذاتها تسكن عينيها.. أناديها .. سارة .. سارة .. أنا السبب .. أنا السبب .. نظرت إلي وابتسمت … لست أدري لماذا ابتسمت .. ثم أسلمت روحها إلى بارئها بين يدي .. صرخت .. اللعنة .. لقد قتلها .. الكلب بن الكلب .. في الحقيقة أنا قتلتها .. كنت أود مصارحتها بحبي الساكن في أعماقي … لم أفعل شيئا .. هتفت باسمها فقط لتسرع في تجاوز الطريق .. لتنجو من الموت كان محمود يتكلم ويده اليسرى ترتجف .. بل جسده يرتجف.. ولما تخلص من آخر دمعة من مآقيه تفطن إلى أن النملة قد غادرت راحة يده منذ زمن ..
بحث عنها دون جدوى .. قبض حفنة من تراب قبر سارة وقفل راجعا إلى مخدعه أمام مقهى الحي يقتات على ذكريات جميلة .



التسميات:

1 تعليقات:

في الأربعاء, ديسمبر 05, 2012 , Anonymous emili med يقول...

لكل شيئ أجل مسمى,هو اختار ان يبوح بسره بعد 3سنوات من الانتظار و لكن للقدر كلمته أيضا
لا تجري الرياح بما تشتهي السفن

 

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية