الجمعة، 12 أغسطس 2011

أنت تحسدني سيدي الرئيس - مدونة الأستاذ يوسف بن يزة

الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

بنت الثرى


على امتداد متناه ترقد مدينة ليست كباقي المدن … المدينة يسكنها الصمت منذ أمد بعيد.. ساكنوها يربون يوما بعد يوم.. يرحلون إليها في لحظات.. لكنهم لا يغادرونها أبدا.. المدينة الصامتة تختنق بالوافدين إليها.. لا أزقة فيها ولا شوارع.. لا مقاهي ولا سيارات لكنها تعج بالشعراء والتجار والسياسيين.. والعاهرات.. لها في قلوب الناس مكان يبعث الرهبة في النفوس وفي قلبها مكان للناس يحملون إليه كلما خبت أنفاسهم.. يسمونها الرمانة.. ربما لكثرة حبها و تراصه صفوفا صفوفا.. لكنه بلا طعم ولا رائحة .. إلا طعم الفناء و رائحته.


* * *

في مكان ما من المدينة الصامتة يقع بيت سارة الجديد.. في البيت جسد يلفظ آخر أنفاس نعومته.. الجسد جسد سارة، أما روحها فهي ترفرف في الأجواء العالية تراقب حركات وسكنات محمود.. هذا الواقف بباب بيت سارة الجديد..
في ذهن محمود كلمات علقت به كانت أذناه قد تلقفتها من شريط سمعي استعاره من أحد الأصدقاء .. الشريط بعنوان عذاب القبر.. على لسان احمد القطان انسلت الكلمات تتجول في ذهن محمود وكأنها مسامير تدق في رأسه..
هنا سجن الأجساد الأبدي.. هنا نهاية كل ملمس ناعم.. هنا مقبرة النهود البارزة و الخدود الموردة.. هنا نهاية كل حلم وبداية المواجهة مع الحقيقة … الحقيقة .. كلمة أعادت محمود إلى حاضره.. أنقذته من عذاب شريط عذاب القبر، فاستغفر الله العظيم مرددا بصوت مرتفع.. رحماك ربي إني كنت من الظالمين.


* * *

على باب بيت سارة وقف شاب في مقتبل العمر فارع الطول أزرق العينين تعلو هامته غمامة حزن عميق غائر في وجدانه… محمود الابن البكر لـ "سي علاوة" شيخ قبيلة " أولاد عيسى" لم يعرف الحزن والكدر طريقه إلى قلبه من قيل.. كان يعتقد بأن الحزن حكر على الفقراء وأبنائهم ومنهم سارة التي راح يرثيها بكلمات مبحوحة…
أنت الآن في هذا المكان المقفر تتوسدين التراب.. تشغلين شبرا من أرض الله الواسعة.. تغطيك أطنان من التراب والحصى.. توسمك ثلاثة شواهد تدل على أنك امرأة.. لم تكوني امرأة وحسب.. امرأة ونصف كما يقولون…
الآن أنت بقابا حلم جميل لم يعد يغزو مضجعي… كلمات متقطعة قفزت فجأة من لاوعي محمود وهو يتأمل بقايا اللحد الذي استحال إلى مزرعة و في موضع القلب نبتت زهرة فريدة في المنطقة لم تلبث أن ذبلت تحت ضربات الشمس القاسية.


* * *

كمن يكلم أحدا استرسل محمود في مضغ ألفاظ مبهمة ممزوجة بملوحة الدمع الرقراق المنهمر من مآقي متعبة.. لابد أنك تستغربين هذه الزيارة المفاجئة.. أنا قادم إليك في مهمة محدودة..
لن أتلو على مسامعك هذه المرة قوائم ممتلكات أبي وشرف وسمو حسبي ونسبي.. لن أطاردك من شارع إلى شارع .. في النهاية لن أخطب ودك هذه المرة .. تريدين الحقيقة .. ليتني أجد فرصة لفعل ذلك مرة أخرى .. لكن جئتك فقط لأصارحك بالحقيقة ..
الحقيقة أعادت محمود إلى حاضره، أنقذته من عذاب اجترار تلك اللحظات المؤلمة.. في هذه اللحظات انتبه إلى ذرات ترابية بدأت تتحرك على اللحد.. أصيب بانقباض شديد.. تسارعت دقات قلبه.. هم بالفرار.. فكر في الاتجاه شمالا.. لا جنوبا.. بل شرقا.. محمود محاصر باللحود من كل جانب والفرار بتلك الطريقة سيكلفه حتما الدوس على هذا اللحد أو ذاك وذلك كفيل بشل قدميه من أثر الخوف.. لذلك عالج قدمه اليمنى باتجاه اليسار للتخلص من شحنة الرعب التي انطلقت من مخيلته وانتهت عند أخمص قدمه.. حاول تحريكها لكن دون جدوى.. لقد شلت بالفعل .

كالتمثال وقف محمود فاغرا فهمه جاحظ العينين لا يدري ما يقول أو يفعل .. ينظر إلى موضع الذرات الترابية المتحركة خلسة.. فكر بأن سارة ستبعث الآن من مقامها بين يديه.. أحس بمزيج من الفرحة والخوف جعلا قوامه ترتجف..
ذهب بعيدا بخياله لما قدر بأن لعنة ستحل به إن لم يغادر المكان.. استعاد في ذهنه الأساطير المتداولة عن صمت المقابر والقبور، أحس بعقدة عميقة تخرس لسانه ، لكنه لم يقو على فعل أو قول أو أي شيء آخر .. لحظات كالدهر مرت وهو لا يعرف حراكا استفاق منها على صورة نملة أزاحت حبيبات الرمل بعد جهد جهيد وصارت تتجول على مساحات اللحد.. بهت الفتى مما رأى وانبلجت في أفقه أبواب كانت موصدة وعادت الحركة إلى رجليه وانجلت عن وجهه تباشير اصفرار أحالته إلى ثمرة بطيخ متعفنة… استعاد محمود الثقة في نفسه وراح يتأمل النملة .

بخفة كبيرة ورشاقة لا توصف.. قدمت النملة السوداء عرضا بارعا ذهابا وجيئة.. سلبت به مدارك الفتى فنسي ما كان فيه ولم يعد إلى حاضره إلا بعد أن مد ناظريه في أفق المدينة الصامتة فطبعت في مخيلته صورة اللحود المرصوفة بانتظام وتذكر مع الصورة صوت أحمد القطان وهو يصدح بكلماته " هنا نهاية كل حلم وبداية المواجهة مع الحقيقة " .. الحقيقة كلمة استفاق من غفوته على وقعها، وتذكر النملة وسارة النائمة إلى الأبد تحت الردم .. كانت النملة تواصل سعيها بين رأس اللحد وقدميه… سلوك الحشرة أثار استغراب الفتى وقفزت إلى ذهنه أفكار غريبة عن تناسخ الأرواح.. هل يمكن أن تتقمص روح سارة جسد النملة مهمل الكتلة..؟ أيعقل أن تكون سارة قد أرسلت هذه النملة لمقابلتي ..؟.

أسئلة شغلت باله هنيهة من الزمن استفاق منها على حقيقة أخرى انسابت على لسان أحمد القطان في شريطه السمعي " احرص يا فاتن العقل بالجسد أن يصير جسدك مرتعا للدود و النمل وهوام الكائنات.

لم يكن محمود ذلك الفتى الطوباوي الغارق في غريب الأفكار وشاذها.. ولكنه انساق وراء ما أملاه الموقف الجلل وهو واقف على قبر سارة بين المئات من القبور المهدمة " احرص يا فاتن العقل بالجسد أن يصير حسدك مرتعا للدود والنمل وهوام الكائنات "..
كلمات كاللكمات راحت تدك بقايا وعي عالق في ذهنه.. وهو يضرب الأخماس في الأسداس.. سابح في حيرة قاتلة بين أن تكون سارة قد صارت نملة أو أن تكون النملة قد صارت سارة.. في كل الحالات كان عليه أن يتصرف.. استجمع ما تيسر لم من حصاد السنين من شجاعة وإقدام..
مد يده يروم الإمساك بالنملة.. أحس بحاجز يعترضه.. تراجع إلى الوراء.. أعاد الكرة.. لمس النملة.. اغتاضت النملة وراحت تهرول في كل الاتجاهات خبط عشواء… استنجد بما تبقى من روح المقاتل التي تسكنه منذ الصبى..
أمسك بالنملة.. وضعها في راحة يده اليسرى، أطرق هنيهة وتذكر قصة لجحا كان قد مر عليها في إحدى السنوات الدراسية.. طرح سؤالا غريبا مستوحى من القصة ذاتها وأسطورة تناسخ الأرواح مازالت تتحكم في مسار تفكيره.. طيب إذا كانت هذه سارة فأين النملة.. وإذا كانت هذه نملة فأين سارة..؟.

لم يفرغ من طرح السؤال حتى زاغت عيناه باتجاه اللحد الذي تكسوه هالة من الخشوع و الصمت… المنظر قذف الرعب مرة أخرى في نفسه بينما تناهت إلى أذنه أصوات غربان بدت وكأنها تراقبه من بعيد.

غير بعيد عن مدينة الضوضاء و الصخب.. تقع المدينة الصامتة.. في المدينة الصامتة مئات أو آلاف البيوت العتيقة والحديثة.. المهدمة والحديثة المرصعة بآخر صيحات الآجر الرخامي…
بين هذه وتلك يقع بيت سارة.. هكذا أصر محمود على تسمية قبر فتاته بعد أن أقنعه شريط أحمد القطان بأن الدنيا هي دار الفناء والآخرة دار للبقاء.. في راحة محمود ما تزال النملة مطمئنة إلى نعومة ملمس تلمعه حبات العرق وفي ذهنه تفاصيل الكارثة التي أرسلت سارة إلى هذا المكان..
فكر بأن الفتاة تود معرفة الوجه الأخر من الحكاية.. فجأة تحركت النملة.. أحس محمود بوقع أقدامها.. قفزت فجأة إلى وعيه فكرة أذهلته.. ربما تكون النملة أيضا معنية بالحكاية.. ودونما تأخير أنشأ يقص التفاصيل على أمل أن تنقلها النملة إلى سارة النائمة في اللحد الذي تحت.. كان ذلك ذات خميس.. كنت كالعادة جالسا أمام مقهى الحي.. أرتشف فنجان قهوة مركزة.. الساعة كانت تشير إلى منتصف النهار تماما… كان صوت النشيد الوطني ينبعث من الثانوية المقابلة.. لحظات مرت خبا فيها صوت النشيد وطفا إلى الأجواء صوت ضجيج التلاميذ وهم يغادرون الثانوية في أول يوم من العطلة الصيفية.. المناسبة مميزة بالنسبة للجميع أما لي أنا فكانت مفرحة ومحزنة في الوقت ذاته، محزنة لأنه آخر يوم أرى فيه طيف سارة التي كنت أرقب خطواتها من ذلك المكان طيلة ثلاث سنوات.. ومفرحة لأنني قررت في ذلك اليوم مصارحتها بالحقيقة..كنت أهفو لرؤيتها وهي تتأبط محفظتها أو معطفها البني… فجأة يتراءى طيفها من بعيد.. أنهض من مكاني.. اخطوا للأمام.. أقف على حافة الطريق .. أنتظر خلوه من السيارات المتزاحمة.. كانت تقف على الحافة الأخرى للغرض نفسه… كنت أنظر إليها وكانت تنظر إلي…
نظرات شوق ولهفة كانت تغادر مآقي كالسهام ونظرات حيرة واستفسار كانت حبيسة عينيها العسليتين.. صدقيني لا أعرف كم دام هذا المشهد الذي أسكرني وأحالها إلى علامة استفهام واقفة على حافة الطريق.. شعور غريب كان يجتاحني حتى خلت الطريق نهرا جارفا يحول بيني وبينها …
بدت مستعجلة .. مدت خطوة.. تراجعت على إيقاعات بوق حافلة مستعجلة.. تعيد الكرة وقد أحست بنظراتي إبرا تغرز في جسدها.. بتوتر واضح تقطع الطريق هذه المرة.. تسرع الخطى.. تمتد المسافات.. تلوح في الأفق سيارة مرسيدس.. عيناي تفقدان التوازن.. عين على سارة الهاربة من نظراتي في اتجاه المجهول وعين على المرسيدس البيضاء… يستبد بي القلق.. تمتد المسافات من جديد..سيارة المرسيدس تتحول إلى سهم يقترب من سارة.. أنادي عليها وقد أوشكت على اجتياز الجزء الأول من الطريق السيار …سارة .. سارة …تلتفت إلى.. تقف على مترين من نهاية الطريق.. تنظر إلي والحيرة ما تزال تطبع تقاسيم وجهها.. تصدمها السيارة.. تقذفها بعيدا كالقشة البالية.. تسقط على الإسفلت.. تترنح.. تتخبط كالعصفورة المذبوحة.. أسرع إليها متحديا سيل السيارات المنهمر… آه يا حظي التعيس.. كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة و الدهشة ذاتها تسكن عينيها.. أناديها .. سارة .. سارة .. أنا السبب .. أنا السبب .. نظرت إلي وابتسمت … لست أدري لماذا ابتسمت .. ثم أسلمت روحها إلى بارئها بين يدي .. صرخت .. اللعنة .. لقد قتلها .. الكلب بن الكلب .. في الحقيقة أنا قتلتها .. كنت أود مصارحتها بحبي الساكن في أعماقي … لم أفعل شيئا .. هتفت باسمها فقط لتسرع في تجاوز الطريق .. لتنجو من الموت كان محمود يتكلم ويده اليسرى ترتجف .. بل جسده يرتجف.. ولما تخلص من آخر دمعة من مآقيه تفطن إلى أن النملة قد غادرت راحة يده منذ زمن ..
بحث عنها دون جدوى .. قبض حفنة من تراب قبر سارة وقفل راجعا إلى مخدعه أمام مقهى الحي يقتات على ذكريات جميلة .



التسميات:

مدفع الكروش


ان ذلك سنة 1971 عندما عانقت الطبيعة كبرياء رجل جزائري لتحبل بمعجزة.. مدفع الكروش باب آخر يفتح على الأسطورة الكامنة في عمق الحقيقة.. " بوثعلاوت" راود الأوهام فاستحالت إلى حقيقة، حيث اتحدت البساطة بالشجاعة واستبد العدم عندما اختفت الوسائل..



النص :

قرية "مركوندة" هذا المساء تبدو حزينة على غير العادة، تشكل تقاسيم أديمها المترامي الأطراف وديانا تخترقه كأنها العروق تبث الحياة في كل مكان.. هي تجاعيد حفرتها الطبيعة جداول يجري بها الماء رقراقا على مدار السنة.. إنها نائمة في هذا المكان منذ الأزل تتوسد مرتفعات "إيذشل" وتلتحف بساطا أخضر كأنه السندس المهرب من الجنة..

أسرعت الشمس إلى المغيب وعلت القرية جلبة الضوضاء تشكلها صيحات التيوس وثغاء النعاج وهي تتدحرج صفوفا متراصة تمتد من سفح الجبل إلى أعلى قمته. في المؤخرة كان "بوثعلاوث" رفقة كلبه "فرعاس" يحاولان إعادة النعاج الشاردة إلى الكوكبة.


لم يكن هذا اليوم يختلف عن باقي أيام "بوثعلاوث" إلا أنه أحس بشعور غريب ينتابه منذ الصباح، ولم يكن يدري ما طبيعته إلى أن لمحت عيناه منظر بستانه وقد قطعت العديد من أشجاره، وعلى القرب منه منظر فرسه وهي مذبوحة تسبح في بركة من دمائها.. لم يصدق عينيه فراح يفركهما بقوة.. أمسك عصاه بكلتا يديه وهب مسرعا يستطلع الأمر وقد هاله أن يرى فرسه على تلك الحال، بينما قام الكلب "فرعاس" بمهمة اقتياد القطيع إلى الزريبة.

وصل بوثعلاوث إلى البستان وقد امتقع لون وجهه واحتقنت الدماء فيه حتى صار كحبة طماطم متعفنة.. ينادي على زوجته.. تخرج مسرعة..

يبادرها بالسؤال : من فعل هذا..؟.

تجيبه.. ومن غيرهم..؟.

من هم.. ؟ هيا قولي وإلا كسرت ضلوعك بهذه العصا.

باستهزاء ترد.. أنت دائما تقوى على إيذائي أنا فقط.. أنا اللقمة الوحيدة المستساغة لديك.

… اسكتي وإلا… قولي من هم.. ؟

كان "بوثعلاوث" قد فكر بأن هذا ما هو إلا فعل جاره وغريمه الذي يكن له حقدا دفينا.. بحزم تقطع عليه تفكيره.. لقد جاء العسكر إلى هنا وعبثوا بممتلكاتنا بعدما أشبعوني ضربا، وقاموا بذبح الفرس واقتلاع الأشجار وفي الأخير اقتادوا البقرة الوحيدة التي نملكها وتركوا هذه الورقة وطلبوا حضورك إليهم غدا.

أمسك الورقة ومط شفتيه كمن يتوعد بالانتقام.. قفزت إلى ذهنه صور الأوراق التي كانوا يرسلونها في السابق والتي كان يمزقها.. وقد أعلم آنذاك بأنهم يطلبون منه دفع غرامة الملكية.. ت
أمل الورقة مليا ثم قال في سره ويداه تمزقان الورقة.. هكذا إذن.. غدا يدفعون الثمن ولن يأخذوا مني فرنكا واحدا .


أسدل الليل رداءه وسكن كل ذي حركة إلى مأواه وبقيت أصوات الصراصير المنبعثة من كل مكان تتوارد إلى أذني "بوثعلاوث" الذي أخذ مكانا له تحت شجرة البلوط القريبة من بيته، وراح يستعرض في مخيلته الطرق التي تمكنه من الانتقام لشرفه.. فكر أن يبيع بعض الشياه ثم يذهب إليهم لتسديد الغرامة وينتهي الأمر، ولكن شيئا ما بداخله كان يدعوه لاستعادة كرامته بالانتقام لشرف زوجته التي أهينت بالضرب، ولم يصل إلى فكرة معينة حتى مضى من الليل ثلثاه، فاستسلم للنوم يتوسد جذع شجرة البلوط ويلتحف بقايا برنوس.

في الصباح استيقظ مبكرا كعادته ولم يكن قد فصل في أمره، فرفع عينيه للسماء كمن يستجدي قوة خارقة يترجاها أن تعينه على الخروج من الورطة التي وضعه فيها الغزاة الفرنسيون..
وبينما هو كذلك لمح غصنا مستقيما يمتد من أسفل الشجرة إلى أعلاها وكأنه يلامس عنان السماء.. وتبادرت إلى ذهنه صور الآلات التي رآها في إحدى حضائر الغزاة، وفي الحال لاحت بارقة أمل على محياه، وابتسم في وقار كمن يكتشف سرا عجيبا..

أسرع إلى بيته وأحضر مجموعة من الأدوات الحديدية وقام باجتثاث الغصن ثم راح ينتزع لحاءه مستعملا ما توفر لديه من أدوات حادة، بعد ذلك قام بدهن باطنه بمختلف الزيوت، ثم أغلق إحدى طرفيه بقطعة حديدية كبيرة يتوسطها ثقب وضع فيه قطعة قماش محشو بالبارود الأسود، وجعلها تمتد إلى عدة أمتار مشكلة فتيلا قابلا للاشتعال،

ثم قام بملء الغصن بأسطوانات تحتوي على كميات معتبرة من البارود وروث الحيوانات وبقايا قطع حديدية، ثم قام بحمل كل ذلك إلى أعلى قمة في جبل "الرفاعة" وهناك نصب الغصن على حجر كبير ووجه فوهته إلى أحد مواقع الغزاة ثم أشعل الفتيل واختبأ.. وكان النجاح حليفه.

في صباح الغد تناهى إلى سمعه خبر يقول بأن قوات المستعمر تكبدت خسائر رهيبة إثر انفجار في موقعها الرئيسي… وأن هؤلاء قد شرعوا في حملة للبحث عن مصدر القصف فما كان على بوثعلاوث إلا أن أعد لهم مفاجأة أخرى ، فأعاد الكرة حيث وضع كميات أكبر من البارود،
وما إن أشعل الفتيل حتى توقف الزمن لتتطاير أشلاؤه في كل الاتجاهات.

التسميات:

برقلاح



".. إمض يا ولدي.. لقد مروا من هذا الطريق.. أسرع الخطى، لا تجزع واكتب مصيرك بيدك.. أنت تعرف أن الحياة قنينة فخارية، يكسرها نسيم الصباح كما تكسرها أعقاب بنادقهم.."

بلسان يهذي، وقلب يرقص، أوصت برقلاح ابنها الصغير أن يتخذ من الجبل ملجأ يواري فيه رعب آخر الليل وهلع تباشير الصبح.. امض يا ولدي، هكذا كانوا يأتون في تلك الأيام.. يدقون الباب، يكسرونه، يقتحمون حرمة الدار، يبحثون عن الرجال.. يأخذون الرجال وتبقى رياح الخريف تسافر في البيت من أقصاه إلى أقصاه..

ذات مساء كانت السماء تعانق أديم الأرض، وكان العناق من مطر.. سمعت ذكَر البوم ينشد أراجيز ما كنت أسمعها من قبل.. قلت في نفسي.. معاذ الله أن يصدق حدسي، فهذا الطائر لم يخيّب حسي في يوم من الأيام.. لابد أن خطبا يترصدنا الآن.. دق قلبي دقة زائدة.. دقة واحدة.. اثنتان.. يدق الباب دقتان.. تتسارع دقات قلبي، يهتز الباب، ينفتح القلب.. ينكسر الباب.. يدخل طيف أسود، يشهر سلاحه..

أين أحمد؟..

لا أحمد هنا..

- قلت لك.. أين أحمد؟..

- أحمد في أعماقي فابحث عنه إن استطعت..

- أيتها العجوز الخرقاء.. سأشطرك إلى نصفين إذا اقتضى الأمر.. يشير إلى زبانيته..

- هيا ابحثوا عنه في كل مكان..

وتعود الذاكرة إلى أزمان مضت.. نعم يا ولدي.. هكذا كانوا يأتون في تلك الأيام.. كنا نأكل الخوف، نشرب الرعب، نشبع الضرب، وكانت هاماتنا تطاول الشامخات ولم تنحن.. امض يا ولدي ففي الجبال دياجير لا تخترقها الأطياف السوداء.. لا ترقى إليها أسباب الفناء، ودعنا نواجه مصيرك كما واجهنا مصائرنا في تلك الأيام..

يعود الزبانية..

- قلَبنا سافلها عاليها ولا أثر لذي رجلين..

- هكذا إذن.. صدقت وسأقسمك الآن إلى نصفين..

شهر سيفه، تنتفخ أوداجه.. تتأجج عيناه شرا مستطيرا..

- قولي.. أين أحمد للمرة الأخيرة؟..

- أحمد بين الشريان والوريد أيها الأحمق فاقطعهما إن أردت الوصول إليه..

- كم أنتِ شجاعة.. كالهدير العاتي يُعقب..

- وكم أنت جبان إن لم تفعلها.. كاللبؤة ترد.. ويمضي السيف يكسر القنينة الفخارية في صمت وهدوء رومنسيين.. سنكون أشرارا إذا لم نلحق بك قرة عينك.. قالها، وهو يخلص سيفه من جسدها..

نعم.. لقد قتلوا جدتي برقلاح ومازال قلمي يؤرخ للذكريات رغم رعب آخر الليل وهلع تباشير الصباح..



2000

التسميات:

الحلم المحظور


هناك حيث تربو الهزيمة في كنف النصر، هناك حيث يعشش الذل في عز العز والشرف.. بين تلك الشامخات التي تغازل النجوم في صمت، وتلك الوديان التي تغزو الأعماق غير آبهة بشرود الآفاق ومن يرتادها.

على نتوء يعلو جلبة الطبيعة ترقد مركوندة في هدوء سحري، تمتد من سفح الجبل إلى السفح الآخر، تتخللها وديان كأنها العروق في الجسم تبث الحياة في كل مكان، هي تجاعيد على أديمها تنبئ بجلال الروح التي تسكنها..

منذ ذلك الزمن الموغل في الماضي تلتحف بساطا أخضرا كأنه السندس يملأ الأجفان حياة.. هي هدية الرب إلى شياطين الإنس، بين الفينة والأخرى تخرج عن المألوف تزهو مع إشراقة شمس كل صباح، تغني للورى، تنشد أعذب الألحان مع زقزقات العصافير التي تستقبل الصباح، تسبح رب الأكوان..

هناك حيث لا تزال نائمة في ليل أبدي صنعه أهلها من جلابيب عقولهم المنخورة، المهزومة بأساطير صنع منها الدهر قوتا لعياله…

في لحظة استرقها الزمن من يومياتهم الصاخبة ولدت صبية حسناء، جاءت إلى الحياة مع أفول آخر شعاع من الشمس، يودع الوجود في يوم خريفي غاضب، جاءت كضيفة ترجو البقاء، صبية يشع محياها نورا، وتتقد عيناها رغبة في الحياة، فرح الأهل بالقادم الجديد وأقاموا الطقوس تبركا بها واختاروا لها من الأسماء اسم بلدتهم " مركوندة".

عاشت مركوندة في كنف أسرتها تجعل من خدمة والديها سببا لوجودها.. التحقت بـ "الصرعوفة" ترعى الغنم منذ صباها، وراحت تجوب البطاح والوهاد في السابعة وتعلمت صناعة "الكسرة" في العاشرة..، كبرت "مركوندة" وكبر معها الأمل في حياة تنسيها تعاسة الماضي، تعلمت كيف تمخض اللبن في جلد الماعز المعلق على قائمة ثلاثية الأرجل، تعلمت كيف تحلب البقرة وتركب الحمار لتزود أباها بالمؤونة في الحقل.. "مركوندة" جسد فتاة يواجه قسوة الطبيعة بإرادة رجل جلد.. تعلمت من جبال " الرفاعة " رفعتها وشموخها ومن ثلوج الشتاء كيف يكون قلبها ناصع البياض، واتخذت من قسوة الطبيعة مثالا للحرص على راحة والديها.. هي الركيزة الخامسة في بيت له ثلاث جدران والرابع جذع شجرة بلوط.

في ليلة مقمرة جلست مركوندة قرب التنور وبجانبها أمها صاحبة الستين عاما.. تتسامران، تتحدثان عن حصاد اليوم من أخبار الجيران وأحوالهم، تمسك بيدها قطعة خشبية، ترسم أشكالا غريبة في رماد التنور، تحرك بها الفحم تارة وتنفخ فيه تارة أخرى.. كان الجميع غارقا في صمت يقطعه صفير الرياح في الخارج وثغاء النعاج في الزريبة، فجأة تتظاهر "مركوندة" بالإعياء، تخاطب أمها قائلة:

هل يمكنني أن أزور الطبيب هذا الأسبوع .؟! تفاجأت الأم بهذا السؤال وتلعثم لسانها.. نظرت إليها مستغربة وقالت: ويحك لو سمعك أبوك لذبحك.. لأحرقك.

.. تندهش الفتاة وتدفن رأسها في صدر أمها وقد امتلأت رعبا وبعد صمت قالت:

بل قولي سيطفئ الحريق الذي في داخلي، الموت أرحم من هذا السجن..

تنهرها الأم ملمحة:

لابد أن بك سحرا، لابد أنك أصبت بمكروه " فلانة " ـ تقصد جارتهم ـ تلك الحسودة التي تكرهنا..

تضحك الفتاة والأسى يعصر قلبها، ترفع رأسها معلقة:

المسحور من يسجنني في هذا القفص الأسود.. تذكر السواد وهي تخدش أديم التنور الأسود.. و تعود الأم إلى أيام شبابها.. تذكرت طقوس العائلة ورغبتها في الانطلاق.. وذلك الشاب الذي اقتحم حياتها بدون إذن، نظرت إلى ابنتها في شفقة وابتسمت بوقار أعاد الفتاة إلى عالمها وقالت:

أعلم أن مرضك لا يملك الطبيب دواءه..

فاستدارت البنت حياء وخجلا، وقالت محاولة تغيير الموضوع:

ترى إلى متى نبقى هكذا تائهين مثل تلال الصحراء لا تمل من التنقل مرغمة؟.. ترى إلى متى يبقى مصيرنا في أيدي غيرنا..؟.

تنهدت طويلا وسكتت محدقة في التنور تراقب شعاعا أرسله القمر عبر إحدى ثقوب السقف وراح يداعب بقايا الحطب المحترق، بدت وكأنها تحدثه قائلة:

أنت تشبهني، قد تسجنك السحب، لكنك تتحرر بين الفينة والأخرى، كلنا أسرى المجهول، كلنا ضحايا الجبروت.. حياتنا مربع يشكل أركانه الاستبداد .. الحياة كوخ أسود وفقط..

تصمت.. الرياح لا تزال في الخارج مصفرة، تحس الفتاة بثقل يغزو جسدها، تقاوم ثم تستلم، لقد غلبها النعاس، كانت متعبة جدا..

نامت "مركوندة" قرب التنور تجعل من أديم الأرض بساطا ومن سقف الكوخ لحافا، ومن التنور تمتص دفئا يغذي أحلامها.. تغيب الفتاة كشمس متعبة من الاحتراق، هناك حيث تستحم وتسبح في أحلامها اللذيذة بينما يدخل والدها عائدا من الحقل وينادي عليها بصوت جهوري فتتدخل الأم طالبة الهدوء موضحة بأن ابنتها مريضة..

يجلس الوالد قرب التنور يتأملها، كانت المرة الأولى التي يرى فيها ابنته طريحة الفراش.. يستفسر عن حالتها فتجيبه الأم بأن الطبيب وحده من يملك الإجابة عن سؤاله، يرمقها بنظرة غريبة طالبا منها إحضار الطعام، فجأة يسمع ابنته تتكلم وهي نائمة، كانت تغازل بن عمها وغريمه، لقد باحت بمكنوناتها رغما عنها، لقد علم الأب بالسر الذي طالما أخفته في صدرها،.. هكذا إذن يا ابنة الفحل .. كلمة قالها وهو يروح ويجيء غير مصدق بأن ابنته ترتكب المحظور ..

كيف لها أن تتكلم مع ابن الجيران؟ ثم من تكون هذه التي تجلب العار لوالدها بكل هذه الوقاحة؟، وكيف يكون موقفه مع الجيران عندما يعلمون …؟!،

أسئلة استعرضها في مخيلته وقد أخذ الغضب يسري في جسده حتى بدأ يرتجف، يسكت مرة أخرى مواصلا الاستماع إليها، كانت تبتسم في نومها وقد أصبحت كلماتها أكثر وضوحا، نائمة في صورة ميتة أو ميتة في صورة نائمة وقد تدحرج شعاع القمر نحوها وارتسم على وجنتيها مشكلا حلقة صفراء.. بدا وكأنه يقبلها، يعوضها حنان والدها الذي افتقدته منذ ولادتها، كانت ملاكا نائما وقد تعاظمت ملامح البشر على محياها وازداد دم الوالد غليانا.. ينهض من مكانه، ينظر يمينا ثم شمالا، يرفع عصاه وينهال على الفتاة ضربا وهو يصرخ في هستيريا المجانين..

صار هاكذا يا واحد الخاينة .. فاستفاقت من نومها مذعورة، تصرخ، تطلب النجدة، تهرع الأم لإنقاذها فتأخذ نصيبها من الضرب، بينما تتسلل البنت هاربة، وقد لاحقها الوالد بكلماته قائلا:

لن تعودي إلى هذا البيت مادمت حيا.. تهرب الفتاة في ليلة داجية، هائمة بين الوديان.. لأول مرة تحس أنها تملك حرية اختيار المسلك، حائرة تشق طريقها نحو المجهول، بين الفينة والأخرى تلتفت إلى الوراء علها تجد والدها يرجو عودتها موضحا الأمر، لكن طال انتظارها، هي حتى الآن تنتظر.

يوسف بن يزة ـ مركوندة 1993


- مركوندة: قرية بالأوراس الجزائري
- الكسرة: خبز الشعير
- الصرعوفة: قطيع الغنم
- الرفاعة: من جبال الأوراس

التسميات: