السبت، 30 أبريل 2011

العضال


عاد الموت مرة أخرى إلى يومياتنا.. لا أتحدث عن القدر المحتوم .. الوعد الحق .. إنما عن هذه السلعة الرائجة هذه الأيام في كل العالم العربي .. هذه الرقعة المحكوم عليها بالموت مع وقف التنفيذ.. الموت هو السيمفونية التي يعزفها القتلة.. لكن سواد الشعوب هم فقط من يموتون .. القابعون في أبراجهم العاجية لا تطالهم فوهات البنادق ولا حتى ضجيجها يقض مضاجعهم.. إنما يطالهم الموت بطريقته الخاصة عن طريق المكلف بمهمة لديه ..

المرض العضال الذي يقيم شيئا من العدالة في هذا المصير المحتوم.. إنه يترعرع في كنف الفخفخة في المأكل والملبس والمنكح هو عدو الطبقات المتحكمة في أنابيب البترول .. يمارس إرهابه على أجسادهم وعلى عقولهم كما يمارس الإرهاب إرهابه على بقايا أجساد الفقراء.. الإرهاب يقتل والصمت الرسمي يقتل والتصريحات غير المسؤولة تقتل أيضا .. كما يقتل الفقر والغيظ والجفاف .. العضال أيضا يقتل .. لكنه ينتقي ضحاه.. وإذا كان الشيح نحناح قال يوما بأن النظام لن يرحل لا بالإرهاب ولا بالانقلاب فإنه يقصد دون شك السبب الثالث ألا وهو العضال الذي أزاح عدة عوائق دون أن يتنفس العامة هواء نقيا .. هو الوحيد الذي يمكنه إقالة هؤلاء الذين لا يتحرك فيهم الضمير لتحمل مسؤولياتهم بإصلاح الأمور أو الاستقالة.. إنه يستحق الشكر والعرفان.

التسميات:

الخميس، 28 أبريل 2011

من وحي المجزرة



تحيي الجزائر بعد أيام ذكرى مجازر الثامن ماي 1945 في أجواء يسيطر عليها نشيد التغيير في كل مكان ॥ تصوروا أن حيا راقيا بمدينة باتنة يسمى " المجزرة" .. وإذا تفننا في ترجمة كلمة " الباطوار" سنقول " المذبحة" طبعا هم يقصدون المكان الذي تذبح فيه الأنعام ولا عيب في هذا .. لكن عندما نسمع مسؤولا حزبيا يقول بأن قوائم حزبه تعرضت لمجزرة بشعة يمكننا أن نستنجد بقاموس اللغة العربية ونقول بأن الأصوات الانتخابية ستتعرض لمجزرة في كل موعد انتخابي.. الكلمة صارت مألوفة لدى الجزائريين فمثلا كم من مرة تطلع علينا الجرائد بمانشيتات تقول.. مجزرة في المكان الفلاني .. اغتيال كذا شخصا في سيدي فلان .. عناوين حمراء مثقلة بالدماء .. لكن تمر عليها مرور الكرام إلى صفحة الرياضة والكاريكاتور والحظ .. الضمير الجزائري الفردي والجمعي تكيف مع هكذا مصطلحات وصار كل شيء عادي .. إننا نحيا في زمن المجازر .. أتذكر ما كتبته جريدة وطنية بالبنط العريض " الحماية المدنية ترتكب مجزرة في ميلة" يبدو العنوان مثيرا للغاية لكن في التفاصيل تقول بأن عناصر الحماية المدنية قتلوا ما يفوق مليون دبور ( بوزنزل) .. أرأيتم لفظ المجزرة جلب اهتمام الناس وحقق مبيعات للصحيفة، فهي إذن ذات أهمية لذلك يقبل الناس على ارتكابها وتسمية أحياء راقبة باسمها .. أكثر من ذلك نحتفل بذكراها في الثامن من شهر ماي من كل سنة ।


التسميات:

الأحد، 24 أبريل 2011

الفضيلة في الرواية الجزائرية - مقال نقدي


رغم قلتها فقد لمعت في سماء الرواية الجزائرية أقلام استطاعت أن تغزوا أسواق الكتاب العالمية وكتب لها أن تترجم إلى عدة لغات، فالرواية الجزائرية تكون قد قطعت شوطا هاما في مسيرة الرقي إلى مصاف الأعمال الخالدة بكل ما تحمله من تشخيص للواقع المعيش أو ما تحمله من رسائل إيديولوجية وكذلك من قيم فنية وجمالية. فيما يأتي دراسة مصغرة لعنصرين طالما جعل منهما أكبر الروائيين العالميين محورا لأعمالهم وهما الجنس والعنف، وحتى لا أغوص في القاعدة التي المعتمدة من طرف أغلب الكتاب الروائيين الجزائريين وهي جعل هذين العنصرين ركيزة أو منطلقا لفكرة القصة أو الرواية فإنني أبحث عن مواضع العفة والفضيلة ومعاني الحب السامية في بعض هذه الأعمال، وستلاحظون معي بأنها قليلة أو نادرة، إلا انه ونظرا للعلاقة التي تربط هذين العنصرين فإنني آثرت أن تكون الغلبة لعنصر الفضيلة لأن العنف في الرواية الجزائرية لم يصل بعد إلى المرحلة التي يتمايز فيها عن باقي تصرفات الأبطال الذين يتقمصون شخصيات واقعية متسمة بالعنف وهي تمارس حياتها العادية وهذا مقتبس من الحياة اليومية للناس وقد اعتمدت على عدد من الأعمال الروائية لكتاب جزائريين مشهورين وآخرين مغمورين، منهم من له باع طويل في هذا الميدان ومنهم من هو في بداية الطريق,إلا أن الملاحظة الأولية التي يمكن إبداؤها هي أن معظم هؤلاء من جيل السبعينات والثمانينات ذلك لأنهم استطاعوا طبع أعمالهم بغض النظر عن قيمها الفنية. كانت صورة رائعة تلك التي جسدها بطلا رواية الفضيلة التي ترجمها الكاتب الشهير "مصطفى لطفي المنفلوطي" حيث حلت الفضيلة في أسمى معانيها محل الدم في عروق أبطال هذه الرواية , فـ " بول" و " فرجيني" سما بالعواطف الإنسانية إلى مستويات من العفة والطهارة لا تشوبها شائبة, وقبل ذلك أبدعا في تقنين ولجم مختلف النوازع والشهوات التي تؤدي حتما إلى الهبوط من درجة العفة إلى درجة البهيمية, وكانت نهاية الرواية أروع ما فيها عندما شاءت الأقدار أن تغرق " فرجيني " عند تحطم المركب الذي كان يقلها ولأنها كانت حريصة على أن لا ينكشف جسدها فإن القدر تدخل ليحقق رغبتها عندما أسلمت الروح إلى بارئها فوجدت مدفونة في الرمل لا يظهر من جسدها العاري إلا رأسها. كانت نهاية مؤلمة وصورة بديعة ترسم في خيال القارئ أكثر من انطباع عن سمو النفس الإنسانية لتصل في بعض الأحيان إلى مصاف الكائنات النورانية رغم ما ينازعها من نزوات شيطانية ورغبات كان قد أودعها الله فيها لغرض استمرار الحياة وليس لاستثمارها في تقويض المثل والقيم الحميدة التي تنم عن صفاء السريرة وأن العفة والطهارة هما الأصل. ولهذا كانت الأديان السماوية تدعو إلى التحلي بهاتين الصفتين. الرواية الجزائرية كانت بعيدة كل البعد عن هذا التصوير الفني الرائع وأكثر من ذالك راح الكثير من الكتاب باختلاف مدارس تكوينهم يبحثون في الاتجاه المعاكس لكل ما يعبر عن القيم الإنسانية الرفيعة التي يتميز بها المجتمع الجزائري وربما يكون ذلك تأثرا بمختلف رواد الأدب الغربيين أو الشرقيين وخاصة أولئك الذين يكتبون باللغة الفرنسية حيث أصبحت روايات الجيب سلعة رائجة في وقت معين في السوق الجزائرية وهي تحمل من العادات والطقوس الغريبة عن مجتمعنا ما يلعب بعقول المراهقين من القراء الذين تحول بعضهم إلى كتاب فيما بعد مع بقاء تلك المراهقة الفكرية ملازمة لإنتاجهم. هذا ما سنلمسه من خلال قراءة أولية غير متعمقة في بعض الروايات والمجموعات القصصية لكتاب جزائريين منهم المشهورين ومنهم المغمورين . البداية برواية " طومبيزا " للكاتب الجزائري " رشيد ميموني " هو بن عائلة بسيطة استغل في مهنة التعليم وهذا ما يدعو للاستغراب. فالقراءة الأولية لرواية " طومبيزا " بغض النظر عن فكرتها العامة ورسالتها الإيديولوجية فإنها تحتوي على مواقف يخجل الإنسان من تحويلها من كلمات ومواقف إلى صور في مخيلته فما بالك إن كتب لها وتحولت إلى فيلم، فالكاتب اجتهد في وصف الأعضاء الجنسية لكل من الذكر والأنثى دون أن يكون لذلك أي هدف فني واضح قد يخدم فكرة النص من قريب أو بعيد أو يزيدها إيضاحا كأضعف الإيمان. هذا المعلم لم يضع في حسبانه بأن مؤلفه هذا قد يقع يوما ما بين يدي أحد تلامذته وسيقرؤها بكل ذلك الكم الهائل من الكلمات النابية والصور اللفظية الخليعة.. ولنا أن نتصور موقف هذا التلميذ من معلمه الذي طالما لقنه دروسا في الأخلاق وأكثر من ذلك يذهب بعيدا في الاستهتار بمختلف مظاهر الحشمة العفة بقوله " لا شيء يدعو إلى مأساة.. حمام وحيد كفيل بإزالة ألف اغتصاب متعاقب .. غشاء صغير تقوم عليه حضارة ".. أي إهانة يقدمها هذا الكاتب لحضارتنا العربية الإسلامية وأي شذوذ هذا الذي ينغمس فيه الكاتب بكل جوارحه؟ ثم أليست هذه دعوة صريحة لفاحشة الزنا أم أن المواضيع ندرت حتى إن كاتبنا لم يجد ما يكتبه غير هذا ؟. قد يقول قائل بأن كاتب القصة أو الرواية وحتى القصيدة حر في استعمال أي لفظة أو تصوير أي موقف مهما كان لإيصال الفكرة إلى المتلقي وهذا لعمري قصور في ذهن الكاتب فهناك الآلاف من الإحالات اللغوية التي تؤدي هذه الوظيفة بطريقة غير مباشرة عند الاقتضاء.. ومعروف عند جمهور الكتاب أن شخصية بطل الرواية عادة ما تنهل من شخصية الكاتب نفسه وهذا أمر لا يقبل الجدال أبدا. لست امتطي هنا صهوة أي تيار فكري ولا أدعو للإصلاح فلهذه الدعوة أنبياؤها، وإنما من أجل التفريق بين الهدفية و اللامعنى في كتاباتنا.. ولا جدوى من تلطيخ فكرة الحرية أو مفهومها بمثل تلك الترهات الكلامية والأجدر بها ـ أي الحرية ـ أن توظف في مواقف تخدم القضايا الإنسانية المطروحة في عالمنا المعاصر.. وشخصيا أرى أن الاعتماد على تلك الكلمات الساقطة في إيصال فكرة الرواية أو القصة حتى وان كانت من صميم الواقع يدخل ضمن اللامعنى والعبث الذين اكتسحا الكتابات الجزائرية واستثني من هذا الحكم كتابات الأديبتين " أحلام مستغانمي" و " فضيلة الفاروق" فللأولى خيال رهيب وتحكم أسطوري في هلامية الكلمات وللثانية قدرة فائقة في الاحتيال على المعاني . كاتب آخر لا يخرج عما سردنا وهو "جيلالي خلاص" صاحب الحصص التلفزيونية الأدبية المعروفة وخاصة " أهل الكتاب " . جيلالي خلاص وفي روايته " رائحة الكلب " بدا وكأنه يحاول الانتقام من وضع يكون قد تخلص منه حيث يذهب في أحد الفصول إلى حد الطعن في شرف النساء الفقيرات؟.. كل الفقيرات يتهمهن ببيع شرفهن بأبخس الأثمان ورغم انه يرى بأنهن يفعلن ذلك ليس رغبة في الفاحشة وإنما اضطررن تحت ضغط الظروف الاجتماعية المتردية وهذا ليس تجاوزا للحقيقة وانها أشياء تقع، لكن لم اللجوء الى استعمال لفظ التعميم ففي اللغة العربية ألفاظ "رقمية" ـ إن صح التعبير ـ لا تقبل أكثر من معنى واحد. الكاتب ذاته يصور في مكان آخر من جسد النص امرأة فقيرة اضطرتها الظروف بعد وفاة زوجها إلى العمل كمنظفة في بيت شيخ البلدية، هذا الخير يقوم باستغلالها جنسيا في حين تخونه زوجته الثرية مع فقراء آخرين تتوسم فيهم الفحولة. ، هذه المواقف نجد منها الكثير في الروايات العربية وحتى العالمية لكن تناول الكاتب لها يفتقد إلى الحس الفني وكأني به يريد أن يقول ذلك وفقط.. وفي كل الحالات فان التعامل بطريقة عشوائية مع الألفاظ يميع الفكرة ويجانب الحقيقة في اغلب الأحيان وما لفظة " زوجات الفقراء "إلا دليل على ذلك، والمعروف عن فقراء الجزائر بأنهم سكان المناطق الريفية وهم أكثر خلق الله حرصا على العفة والفضيلة في تعاملاتهم اليومية فمن أين للكاتب بهذه الأفكار المشوهة للحقيقة حتى وإن ورد ذلك في رواية قد تكون من صميم الخيال . كاتب آخر لم يكتب لأعماله أن تنتشر كثيرا هو " اسماعيل غموقات " . في روايته " الأجساد المحمومة " اعتمد لغة الحوار في أغلب فصولها وهو ما جعله يبتعد عن الوصف الذي يمر دونما شك عبر مكونات الجسد بالنظر إلى العنوان الملتهب الذي وضعه لروايته والذي يحيل ذهن القارئ منذ الوهلة الأولى إلى تصور طبيعة الرواية وحيثياتها، إلا أن الملفت للانتباه هو عدم تطابق عنوان الرواية مع مضمونها فعبارة " الأجساد المحمومة تنبئ عن جو مهووس بالجنس والانغماس في الرذيلة وهذا ما لم نجده في المضمون بل بالعكس هناك مواقف استبد بها الشرف والعفة في حين كان بإمكانه أن يهبط بالمستوى الأخلاقي فيما كتب إلى القعر، وهكذا جعل من الحب لغة تتبادلها القلوب عبر إشارات لاسلكية و ليس لغة الأجساد المحمومة التي توحي بجنوح النفس الإنسانية إلى الشذوذ كلما وجدت إلى ذلك سبيلا . أما الكاتب الصحفي " أحميدة العياشي " وهو من الكتاب الذين اشتهروا حديثا لاسيما في الكتابات الصحفية المتمردة. فهو أيضا ينحو منحى سابقيه في التجني على نبل الفكرة وهدفيتها، ففي روايته " ذاكرة الجنون والانتحار" حاول أن يبحث عن الإثارة بكل الطرق والوسائل تماما مثلما يفعل في كتاباته الصحفية، أما عن الرواية المذكورة فهي كوكتيل من العبارات المثيرة لكل ما يمكن إثارته وقد وصم بها الزمان والمكان حتى إن قارئ هذه الرواية التي جرت أحداثها في إحدى قرى الغرب الجزائري يخيل إليه وكأنه يشاهد فيلما إباحيا فإضافة إلى انعدام ابسط أدوات الكتابة الفنية كالانزياح اللغوي وتراكب الأحداث فضلا عن ألغاز العقدة والحبكة الفنية فقد استبد الوصف الذي طوق المكان والزمان ليجعل منهما أمكنة وأزمنة يجول بهما بطل الرواية بحثا عن اللذة والانتقام وبحثا عن الحب المفقود، أكثر من ذلك يسمح لنفسه ولقلمه بان يسب مقدسات المسلمين استهتارا بها أو بحثا عن الإثارة كالعادة وإلا كيف يورد على لسان أحد أبطال روايته الذي يخبر زوجته بأنه يريد زيارة مكة المكرمة و المدينة المنورة حاجا وهو في قمة النشوة الناتجة عن الجماع؟ كاتب آخر نال قدرا من الشهرة خاصة بعد وفاته إنه القاص " عمار بلحسن، ففي مجموعته " حرائق البحر" لا يخرج عما أوردنا وفي غمرة قصص الحب التي يوردها والتي يكون هو البطل فيها في أغلب الأحيان ينحو منحى الآخرين وهو ما يسميه بممارسة الحب الذي لا يتم إلا بالتقاء الأجساد ، هذه العقدة التي ضلت تلازم قصص عمار بلحسن جعلتها وكأنها غاية في حد ذاتها و بالمقابل استبعد كل مظهر للعفة التي تكون عادة مرافقة لتلك العلاقة المقدسة أكثر من ذلك فهو لا يعترف إطلاقا بالمسلك الشرعي لممارسة الحب ففي حديثه عن الزواج يتجاوز كل الحدود و الحواجز الأخلاقية ويعطي لنفسه الحق في وصفه بلفظ مبتذل وهو " الدعارة الرسمية " . وقد أورد ذلك على لسان احد أبطاله . " عبد المالك مرتاض" كاتب آخر وقعت بين أيدينا روايته " الخنازير" وبقدر ما كانت مفعمة بفلسفة أيديولوجية غير واضحة فهي نابعة بحق من المجتمع الجزائري ، حيث تفيض في وصف الجزئيات التي تشغل يوميا ت أبطاله وبدا في كل مرة وكأنه ينافح عن قيم معينة لم يكشف عنها صراحة لكنها واضحة وتفهم من سياق الأحداث التي كانت في معظمها ذات خلفيات سياسية تتماشى مع مراحل تكوينه الفكري وهذا لم يمنعه من أن يتعرض لبعض خوالج النفس الإنسانية وما ينتج عنها من حركات وسكنات قد تخرج عن نطاق المألوف، لكن لم يصل به الأمر إلى حد الإبحار في الوصف المستفيض للجسد. كاتب آخر له حظ من الشهرة هو " رشيد بوجدرة" الذي كتب باللغة الفرنسية، ففي روايته " الحلزون العنيد " انتهج منهج بن المقفع في كليلة ودمنة عندما استبدل شخصيات روايته بالجرذان وأعطاها سلوكات بني البشر وراح يصف نمط حياتها وهو يرمي في الحقيقة إلى تحديد لحظات تحول الإنسان في علاقته بآلة الدولة وأثر هذه التحولات في تشويه كيان الإنسان.1 وربما هذا ما جعله يبتعد عن العلاقات الإنسانية كالحب والكره وما يؤدي إليه من تثبيت أو إلغاء بعض القيم الإنسانية . " عبد الحميد بن هدوقة" أحد عمالقة الرواية الجزائرية يمثل بحق النموذج الأمثل للكاتب الملتزم بالموضوعية في وصف واقعه و المتمسك بالحد الأدنى من الخجل الصحي في وصف حركات وسكنات أبطاله، ففي كل من " بان الصبح" " غدا يوم جديد" " نهاية الأمس " يذهب الكاتب بعيدا في وصف أعماق المجتمع الجزائري بعدد من القصص التي قد تكون واقعية تبين علاقة الإنسان بأخيه الإنسان أو علاقته بالطبيعة وكذلك علاقته بالدولة، فالعلاقات الإنسانية في كتابات "عبد الحميد بن هدوقة" قوية جدا وتتحلى بعواطف متداخلة تجعل من محيط الأبطال مسرحا لتناطح عدة أفكار وعدة نماذج من الحياة مما يكسبه نوعا خاصا من الإثارة بالإضافة إلى غوصه في مختلف جوانب الحياة خاصة تلك السائدة في الريف الجزائري أين تجري معظم أحداث رواياته ، فعلاقات الأفراد في العائلة متماسكة وعلاقات الأفراد ف " الدشرة " " البلدة " قوية وسمة هؤلاء التعاون والتكاتف وهو تجسيد واضح للأفكار الاشتراكية المنتشرة بقوة في فترة السبعينيات من القرن الماضي، وقد ركز الكاتب على العلاقات التي تنشأ بين القرى دون أن يهمل لتلك التي تنموا بين الأفراد و التي تكون عادة في تبادل للأحداث من حيث السبب والطبيعة بمعنى أن علاقة امرأة من قبيلة معينة برجل من قبيلة أخرى هي علاقة حتمية بين القبيلتين قد تؤدي إلى تحالفهما كما قد تؤدي إلى تقاتلهما، ثم وفي متابعيه لهذه العلاقة التي عادة ما تكون علاقة حب أسطوري تبلغ فيها التضحية مداها الأكبر. ولم يسمح الكاتب لنفسه بابتذال الكلمات البذيئة ويكثر من المواقف المخجلة حيث يكتفي بالإشارة إليها إذا كان لا بد من ذلك، هنا يجد القارئ المتذوق شيئا من ذلك الإحساس الرائع الذي يرافقه وهو يقرأ رواية الفضيلة ثم إن الراحل عبد الحميد بن هدوقة في رواية " ريح الجنوب" ـ التي حولت فيما بعد إلى فيلم سينمائي ـ يصور قصة حب رائعة بين ذلك الفتى الذي يمتهن الرعي وفتاة قروية لها حظ من التعليم وتدرس في عاصمة البلاد، ورغم الفارق الاجتماعي بينهما فقد لعبت الشهامة والعفة والطهر دورها في تسيير تلك العلاقة المحرمة مبدئيا في أوساط مجتمع محافظ حد التخمة وهكذا يكون الكاتب قد سما بأبطال روايته إلى درجة متقدمة من الفضيلة تحاكي تلك التي ذكرناها عن كل من "بول" و " فرجيني" في رواية الفضيلة . عكس بن هدوقة يذهب الكاتب الجزائري الذائع الصيت " الطاهر وطار" في بواكير أعماله إلى ابعد الحدود في وصف الأحداث السياسية وتحليل العلاقات بين الأفراد وأشير هنا إلى أن أعمال هذا الكاتب اتخذت منحى متصاعدا من حيث نضج الفكرة حيث تميزت أعماله الأولى بالانغماس في أجواء الرذيلة وامتهان مختلف القيم الإنسانية السامية " ففي روايته " عرس بغل" التي جرت أحداثها في ماخور يرتقي الكاتب درجات الوصف كلها ليشّرح بالتفصيل أحط أنواع الممارسات التي قد تحدث بين شخصين، أكثر من ذلك يتفنن في تصوير المواقف المخلة بالحياء ليطعمها ببعض مشاهد العنف مما يجعلها كوكتالا من العبثية حيث يفقد الإنسان كل قيمه الاجتماعية و يتحول إلى مجرد آلة تشتغل بأوامر الغريزة, هذا التناول المهين و المفجع لقيمة الإنسان يجعلنا نطرح تساؤلا بريئا عن الهدف الذي يتوخاه الكاتب من كل ذلك الوصف وفي النهاية نجد بعض الإجابة حيث بقيت الأحداث معلقة وكأن للرواية جزء ثان فلا لحظة الانجلاء انجلت ولا العقدة حلت مع الإشارة إلى أن السياق العام للرواية يشير كالعادة إلى أحداث سياسية لها علاقة بالدولة وشكلها وهو شان كل الكتابات المضمخة بالايدولوجيا. إلا أن الطاهر وطار وفي روايته " اللّاز" يعود من بعيد ويبتعد عن أسلوب الإثارة ويكتب إحدى ملاحم الثورة التحريرية الجزائرية الكبرى وكذلك الأمر بالنسبة لـ" الشهداء يعودون هذا الأسبوع " وكذا " الشمعة و الدهاليز" وأخيرا "الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي" وهذا ما نلاحظه في كتابات " كاتب ياسين " وعمر بن قينة" أيضا . أما بالنسبة للوجوه النسائية فإننا نورد مثلا الكاتبة " زهور ونيسي" ففي روايتها " على الشاطئ الآخر " تغيب كلية أي إشارات إلى الجنس أو هتك ستار العفة وربما يعود ذلك لأحداث الرواية التاريخية أو لطبيعة المرأة ذاتها، وأعود مرة أخرى إلى كتابات "أحلام مستغانمي" التي تنضح بالمعاني الخفية لنزوات النفس الإنسانية حتى أنها في روايتها " فوضي الحواس" خلقت أسلوبا جديدا في التعاطي مع مثل هذه المواضيع ولكن بحس فني عال قل ما نجده عند آخرين . ومهما يكن فإن الرواية الجزائرية بتعدد مواضيعها عانت في القديم ولا تزال تعاني من فقر الفكرة حتى إن بعض الروايات تشبه سيناريوهات الأفلام و الحق أن الفرق بين هذه وتلك واضح، فليس ما يشاهد أو يسمع مثل ما يقرأ، وعلى عكس الرواية المشرقية قطعت الرواية الجزائرية والمغاربية عموما أشواطا في تجاوز الفضيلة وفسحت المجال لدغدغة الشهوات والسبب قد يعود إلى تأثر الكتاب في هذه المنطقة بالآداب الغربية عطفا على التقارب الجغرافي والاحتكاك المتواصل بمنتجات الحضارة الغربية . إن الهدف من هذه الدراسة ليس التقليل من قيمة أي عمل فني أو أي كاتب سيما وأن بعض هؤلاء ارتقى إلى مرتبة العالمية ومنهم من ترجمت أعماله إلى عدة لغات وإنما هي ملاحظات يمكن لأي قارئ عادي أن يبديها، خاصة وان الموضوع له من الحساسية ما يجعله قد يمتد إلى شخصية الكاتب ذاته ، كما أن الأحكام الواردة هنا تخص فقط العينة المدروسة ولا يمكن بأي حال إسقاطها على كل الأعمال الروائية الجزائرية .

التسميات:

دوامة العدم


قلت مرة للحياة :" أود لو أسمع الموت متكلما .. فرفعت الحياة صوتها قليلا و قالت : إنك تسمعه الآن"
ـــــ جبران خليل جبران

..أبت أن تستسلم.. تأتي إلى هذا المكان كل مساء أين كنتما تلتقيان، تحمل زنابق بيضاء. . تجلس حيث كانت تجلس، على صخرة، تحت شجرة تعانقت أغصانها وراحت تلامس عنان السماء. . يقابلها البحر هادرا كعادته. . تأتي أمواجه من بعيد. .

تتراءى كجبال هائجة تريد أن تلتقم الوجود. . وتصل بصوتها المخيف لتتحطم على صخرة صغيرة كانت أسفل الشاطئ، ثم تعود أدراجها مياها تصدر خريرا يحيي موات النفوس. . قالوا عنها مجنونة. . رموها بكل الأوصاف. . لكنها بقيت وفية لعادتها. . تأتي إلى هذا المكان كل مساء إحياء لذكراك. . تسترجع أحلى اللحظات التي جمعتكما هنا تستأنس بزرقة البحر. . تناديك من أعماقها، تعانق روحها روحك، تبعث إليك

. بتقاسيم الزمان والمكان. . تستجديك أن تأتي، وكان عليك أن تجيب النداء. كانت تعلم أنك ستأتي حتى من عالم الأرواح. . أنت الآن راقد في مكان مامن هذه الأرض. . قالوا إنك مت بطريقة تثير الاشمئزاز في النفوس. . لم تكن إلا رقما صغيرا في عدد كبير، لايزال يكبر بعمق الجرح الذي ينزف كل يوم. وكان عليك أن تستجيب لندائها الذي يملأ السموات والأرض. . تتلبد السماء ! فجأة. . يلمع البرق، يقصف الرعد. . ، تنزل صاعقة من السماء تضيء الكون تغوص حتى الأرض السابعة. . تتحرك ذرات من مختلف بقاع الأرض، تتجمع، تميد

الأرض بمن عليها. . تتحرك لأول مرة بعد سنوات من السكون، تشعر بتيار كهربائي يسري في جسدك. . جسدك تراب يملأ بقاع الأرض. . تلم شتاتك، تستجمع الرميم ليصير عظاما. . الروح تسري في قدميك، تصعد إلى أنفك، تتنفس هواء كأنك تشرب

الكحول الذي لم تذقه في حياتك. . تعطس، تحمد الله. . التيار الكهربائي يزداد شدة. . تصعد الروح إلى عينيك. . لا ترى شيئا. . عيناك ملآى بالتراب أنت الآن آدم هذا الزمان. . تشهد المراحل الأولى للخلق. . تزيح أطنان التراب عن جسدك. . تنهض من رقادك. . تحس بآلام تغزو جسدك. . تستقيم واقفا، عاريا كما ولدتك أمك، أنت الآن في حالة طوارئ. . ماذا يحدث لو رآك أحدهم بهذا المنظر.؟ . يمر عدد من الناس بالمكان. . لا أحد تفطن لوجودك. . تعتريك رغبة في مناداتهم ليعيروك ملابسا تستر عورتك، تفعل. . ، لا أحد ينتبه لندائك. . ترفع صوتك. . الجبال تردد معك. . تحس بالوحدة. . تصرخ مرة أخرى لا أحد يسمعك. . وتتحطم الأمواج العاتية على صخرة صغيرة كانت أسفل الشاطئ يمضون في طريقهم. . تتحرك. . يمينا ثم شمالا، تبحث عن قشة تلفها حول خصرك. . لا شيء في هذا المكان المقفر. . ، تتبين أنك في واد عميق. . تسمع صوتا. . اسمع. . يا أنت. . قف. . ارفع يديك. . تحس بخوف شديد يسري في ةجسدك. . لابد أنهم اكتشفوا أمرك. . ترفع يديك، تنتظر،. . لا أحد يقترب منك. . تنزل يديك. . تختبئ وراء جذع شجرة. . يمر شخصان بقربك. . يجريان تتبع خطواتهما. . يزداد خوفك. . يشهران أسلحتهما في وجه أحد الرعاة الذي كان مطمئنا إلى أغنامه. .

تدرك أن الأمر لا يعنيك. . وتتحطم الأمواج العاتية على صخرة صغيرة كانت أسفل الشاطئ. . تصعد المنحدر بصعوبة. .
الآلام تنهش مفاصل جسدك. . تحس بالعطش. . تجد ساقية يملأها الماء الزلال. . تجلس لتشرب. . تظهر صورتك واضحة على وجه الماء. . تخجل من نفسك . . ما أكثر مواضع القبح في جسدك.. مرة أخرى تبحث عن شيء يسترك، تتجه إلى الشاطئ. . البحر يتراءى لك من بعيد هائجا كعادته، تحس بدفء يغزو جسدك. . تخال البحر يحترق، تزداد دقات قلبك. . تسمع ضجيجا يقترب أصوات نسائية ممزوجة بصراخ الأطفال. . الضجيج في طريقه إليك. . تبحث عن مكان تختبئ فيه، تدرك مدى غربتك عن المكان. . تقف متسمرا في مكانك. وتتحطم الأمواج العاتية على صخرة صغيرة كانت أسفل الشاطئ. . يمر موكب النسوة، يحملن قربا وأواني لجلب الماء. . تتنصت على حديثهن. . المجنونة. . لاتزال في مكانها تنتظر العدم ليأتي إليها. . تضخك في نفسك وتفهم أنها في المكان تنتظرك. . تتعجب. . كيف لم يستطعن رؤيتك وقد مررن أمامك.؟ . لابد أنك لا مرئي. . تواصل طريقك. . تجد شجرة تين باسقة وارفة الضلال، تنزع أوراقا، تضمها إلى بعضها البعض، تستر بها عورتك، تخطو بضع خطوات. .

تسمع وقع أقدام تقترب. . تعتريك الدهشة مرة أخرى، تبحث عن مخبإ فلا تجد،. . أنت الآن وجها . لوجه مع رجل يركب دابته. . تتوقف. . تحاول أن تفعل شيئا. . لا تستطيع تشعر أن الدابة قد رأتك. . تتوقف وقد انتصبت أذناها. . تصدر صوتا مخيفا تتيقن أن أمرك قد كشفته الدابة. . يصعد الدم بكثافة إلى وجهك. . يسيطر الخوف على كيانك. . تقفز الدابة في حركات عشوائية، يسقط الراكب وتولي هي هاربة. . يعود إليك الهدوء، وتتحطم الأمواج العاتية على صخرة صغيرة كانت أسفل الشاطئ. . البحر يتحفز للهجوم مرة أخرى. . تقترب من مكان اللقاء يتراءى لك شبحها من بعيد تستقبل البحر موجهة ظهرها إليك. . منظرها يوقظ . فيك ذكريات. . الآن تبدأ ذاكرتك في استعادة الماضي. .
تتذكراخوتك وعائلتك . كنت دائما تشعر أنهم معك. . لكنك لم تكن تلتقيهم. . تتذكر آخر مرة . رأيتهم. . كنتم نائمين. . فجأة يدق الباب بعنف. . الخوف يسيطر عليكم. . تسمعون انفجارا هائلا أعقبه تسلل عدد من المسلحين إلى البيت. . تتفرقون . . تحاول الفرار، تحمل بندقيتك، تدافع ببسالة. . تقتل واحدا. . إثنان . ثلاثة تحس بقطعة نحاسية تخترق جسدك. . الألم يشل حركتك. . تنزوي في ركن مظلم. . تسمع صراخ إخوتك الواحد بعد الآخر. . ثم يسود الصمت. .

تبصر ضوءا ينتقل بين أرجاء الغرفة. . تقترب نهايتك. . يجرك من قدميك. . تسمع حوارا بين عدد لا يحصى من الأصوات. . ثم تصم آذانك. . أنت الآن في طريقك . لملاقاتها بعد جفاء دام سنين طويلة. . تتقدم ببطئ. . تضع يدك على كتفها . لا تلتفت. . ترفع يدها وتضعها على يدك. . البحر لايزال غاضبا. . تحول بينها وبين البحر. . ترفع عينيها. . ينفطر قلبك لمنظرها. . تهديك زنابق بيضاء. . تتأسف في داخلك. .
تركز نظرها في وجهك غير مصدقة. . ينهمر الدمع. سكيبا يملأ مقلتيها. . تمد ذراعيها إليك. . تحضنها بعنف. . تتعانقان . تبكيان طويلا. . تسمع وشوشة في الغابة المقابلة. . تنتبه. . بينما تبقى هي متشبثة بعنقك. . تحاول تركها لتستطلع الأمر. . تعود الذكريات الأليمة لتستوطن ذاكرتك. . تحس بجروح عميقة. . ساقاك تنزفان. . يجرك أحدهم بملئ قوته. . تهرع هي لإنقاذك، يصفعها فتقع مغمى عليها. . تنزع يدهاعنك بقوة، . تستدير. . أنتما الآن محاصران يحيط بكماعدد من المسلحين. . يشهرون أسلحتهم . . تنتبه إلى أن عددا من الفوهات موجه إليك. . أنت مرئي في هذه اللحظات . . يقترب منك اثنان. . يربطان يداك إلى الخلف. . يتقدم منها كبيرهم.. يمسكها من شعرها. . يضحك مقهقها. . أنظروا إلى ذلك الجمال. . أين هو؟ يصفعها. . يتحرش بها. . تحاول أن تفعل شيئا. . لا تستطيع. . يمسك بك أحدهم. . يطرحك أرضا. . يستل خنجره. . تتذكر آخر مرة رأيت فيها ذلك الخنجر .. كان يمرح ذهابا وجيئة في رقبتك. . يغيب عنك وعيك. . وتأتي أمواج البحر غاضبة لتطغى على اليابسة وتملأ الدنيا ماء ودمارا.

التسميات:

شظايا الأعماق



قال الوثن.. وكنت أمشي في الشارع.. أحث الخطى.. في شارع الشهداء وقف واحد من بني جنسي ألقيت عليه السلام فمارد.. أعدت الكرة فتمرد الصمت على شفتيه وقال.. أي سلام يا بن العم أما ترى ما حصل في بلادي.. بالأمس.. اجتاح الجراد هذا الشارع فأحاله إلى يباب.. هبت رياح يأجوج وماجوج والتهمت الوطن.. أي سلام يا ابن العم.. أنا وثن.. منذ عشرات السنين في هذا المكان ألبس روح الشهيد.. تلبسني روح الشهيد.. أنا الشهيد يا ابن العم.. قتلوني منذ سنوات وهاهم الآن بمعاولهم يحاولون هدمي.. بالأمس هبت رياح يأجوج ومأجوج والتهمت الوطن.. لا مأوى.. لا سكن.. في شارع الشهداء شهيد في صورة وثن.. وقف في الناس يخطب قال.. هذا الزمان زمانكم.. هذا المكان مكانكم.. هذه الروح التي تسري في جسدي هي إرادتكم.. هيا هبوا لنجدة الوطن.. هبوا.. هكذا قال الوثن.. فاستحالت كلماته إلى أشواك راحت تغرز في الضمائر النائمة.. وجاء الطوفان من أقصى المدينة.. لقد مروا من هنا يا ابن العم.. فراحت أرواح شارع الشهداء تحييهم.. توزع النياشين على صدور الثائرين.. وكان الجراد الأصفر يصنع الخراب أينما حل.. أتفهم ما معنى أن تتحول أرواح شارع الشهداء إلى جراد يلتهم الأخضر واليابس؟.. أتفهم ما معنى أن تنفجر أفئدة المقهورين وتتحرر الخناجر من قبضة السكاكين لتصدح بتراتيل الفداء.. انفجارات يا ابن العم.. هنا وهناك.. في أتون الوعي واللاوعي وشظايا تنبعث من الأعماق كالسهام ترجو اختراق الآفاق..

شظية أولى:

أمسكوا به من أذنيه.. اقتادوه إلى مكان خال.. وضعوا السكين على رقبته وقالوا.. من ينقذك منا الآن..؟ اضطربت السكين.. جحظت عيناه.. انتفض لسانه.. لا.. لا.. لا تفعلوها.. لكنهم فعلوها.. ذبحوا الوطن يا ابن العم.

شظية ثانية:

كانا معا.. يجمعهما المكان ولا يفرقهما الزمان.. ولد وبنت، يحلمان بغد مشرق.. بعرس يحيلهما إلى جسد واحد في التحام أبدي لا انفصال بعده.. وكانت الأحلام عصافير تحلق في الأجواء.. أما على الأرض فتحدث الناس عن عاشقين صغيرين قضيا تحت زحمة الجراد الأصفر المنتفض.. وقالوا أيضا.. كان الحب يصنع سعادتهما.. واأسفاه.

شظية ثالثة:

حكت لي جدتي قصة قالت.. تحاورت الحياة والموت يوما وكان الحوار صراعا من أجل فرض الذات.. قال الموت أنا هازم اللذات، أنا من يسلب الحياة.. فردت الحياة.. وأنا من يصنع الوجود السعيد من دموع المنتحبين أنا من تقتات من أكفان الأموات.. وعندما زحف الجراد الأصفر غنت الحياة والموت أنشودة البقاء والفناء.. وسكت الوثن، بينما جادت عيناه بسيل من الدموع العذبة كعذوبة الملح الأجاج.

1999

التسميات:

وفي ومخلصة



قال الوثن.. ورحت أشق التلال والوهاد.. أمخر عباب البحر، أطوي الفيافي طيا.. أبحث عن طيفها الذي سكن ذاكرتي منذ مئات السنين.. كان عليّ أن أدخل عوالم الجن والكائنات المتحولة بعد أن طفت بالأرض وباقي كواكب السماء.. حسدونا يا صديقي.. أمطرونا بسهامهم المسمومة.. قالوا.. محال أن تعشق الشمس القمر.. محال أن يستحيل المحاق إلى بدر.. محال أن يصير المحال حقيقة.. وكانت الشمس تهوى القمر.. وكان القمر يحيا بنورها.. ألم يقل العلماء إن ضوء القمر ماهو إلا انعكاس لضوء الشمس.. تخيل يا صديقي لو أن القمر احتفظ بنور الشمس لنفسه.. كيف ستكون ليالي العشاق..؟ تخيل يا صديقي لو أن القمر أخفى وجهه عن الكون.. هكذا يريده الخفافيش أن يفعل..
لكن القمر يحب الشمس.. يغازلها من الغسق.. إلى تباشير الصبح.. يختلي بها في أرجاء الكون الفسيح، يحرصهما الإله وملائكة الرحمة.. هذان العاشقان يا صديقي في الآفاق يجسدان رغبة الإله.. إنه الحب.. يقولون وراء كل رجل عظيم امرأة.. أنا يا صديقي لم أر مثل هذا الحب الأبدي.. يلتقيان منذ الأزل يراقبان الطبيعة.. يسخران من عبث الأقدار.. ثابتان لا يشوبهما التغيير.. هذا القمر يحب تلك الشمس.. أي معنى للوفاء أصدق من هذا..؟ آه يا صديقي.. لو رأيته يعانقها لأدركت عظمة الخالق.. ذات يوم.. اشتاق لرؤيتها بعد شتاء من الغيوم والكدر..
ولما انجلت عن الدنيا سحابات العتمة قفز القمر من مداره وارتمى في حضنها.. عانقها طويلا.. ضمها إلى صدره.. قبلها حتى استحالت أنفاسها إلى لهيب يلفح الوجود.. أتدري ماذا حصل.. غابت الشمس عن الدنيا.. امتص القمر كامل إشعاعها.. بقبلة واحدة.. إنه الحب يا صديقي.. وهؤلاء الجبناء يسمونه كسوفا.. لم يجرؤ أحد أن يقول إن القمر يحب الشمس.. أحيانا.. يعانقها.. لا أحد، لأن الحسد يمنعهم.. وراء كل قمر عظيم يا صديقي شمس عظيمة، تمنحه الدفء في الفراغ الكوني البارد.. تمنحه الحنان في الأرجاء الفسيحة الموحشة.. وتمنحه النور الذي يهديه إلى عشاق الأرض.. إلى تلك القلوب المتعلقة ببعضها البعض.. هذا القمر يا صديقي.. وفي لحبيبته.. يدور حول الأرض، لكنه يعشق الشمس.. بنورها يحيا من أجلها.. هناك في الآفاق.. لا أحد يزعجهما.. يتسامران ليلا لينام القمر نهارا.. لا يا صديقي.. إنه لا ينام.. بل يختفي خجلا من نورها العظيم.. رأيته يعانقها ذات يوم في وضح النهار..
عندها أظلمت الدنيا وقال الناس.. لقد انكسفت الشمس.. هذه الشمس يا صديقي مخلصة لحبيبها، تغيب عنا ولا تغيب عنه، تبتعد عنا شتاء لتقترب منه.. تقترب منا صيفا لتقترب منه.. هذه المخلصة يا صديقي تحب ذاك الوفي.. إنها سنة كونية نادرة ترسم معاني الحب.. فما أتعسكم يا طواحين الخبث والهوى الفاسق.. أمامكم أمثلة لا تحصى وأنتم تمارسون الخيانة بسبق الإصرار والترصد.. ولم يصمت الوثن حتى نهرته بعنف.. كفى.. كفى.. يا صديقي ما عدت أقدر على مقاومة كلماتك.. وسكت الوثن..


التسميات:

بقايا


مدخل:

الشجرة التي تغطي الغابة أضحت عارية، تفقد أوراقها ورقة، ورقة… أغصانها تعانقت، جذورها غزت أعماق الأرض تتشبث بأديمها..، تأبى الركوع، ترفع رأسها أبدا يغزو عنان السماء.. لكنها تفقد أوراقها مصفرة ذابلة، تسقط واحدة تلو الأخرى… الشجرة أضحت عارية والخريف يأبى الرحيل..

النص:.. خالتي حليمة هكذا كنا نسميها.. تأتي صباحا إلى الحي الجامعي تلتحف ملاءة سوداء… تستيقظ باكرا لتقطع مسافة بين مقر سكناها ومقر العمل حيث تقوم بأعمال التنظيف ثم تعود مساء وكلها نشاط وحيوية…

ذات صباح خالتي حليمة لم تأت وافتقد الحي ابتسامتها المميزة وهي تغدو وتروح كفراشة الربيع… ولأننا نحبها ذهبنا لزيارته…

نقطة سوداء تتراءى من بعيد أسفل حائط أبيض… نحن الآن في طريقنا إلى منزل خالتي حليمة، الطريق أمامنا يمتد كحبل لا ينتهي.. نتقدم شيئا فشيئا… النقطة السوداء أسفل الحائط تكبر وتكبر… شبح خالتي حليمة يظهر بوضوح… إنها هنا تسند ظهرها إلى الحائط… السواد يكسو جسمها المتهالك من رأسها إلى أخمص قدميها… ابتسامتها المعتادة غارت في أعماق حزن عميق يطبع تقاسيم وجهها الوقور والدمع يسري عبر تجاعيده وديانا تشق مساحات خديها المطبوعتين بأختام عقدها الخامس.. في حجرها طفل صغير تملأه الحيرة وهو يبحث عن حنانها الذي افتقده… خالتي حليمة لم تعد كما كانت.. هي كومة من الحزن تغطيها أسمال بالية… نظرت إلينا وأجهشت بالبكاء قائلة: أنتم أيضا أبنائي… شفتاها ترتجفان ويداها تداعبان شعر الطفل الذي بدا عليه أنه لم يفهم شيئا.. خالتي حليمة لا تزال هادئة والدمع لم يغادر مقلتيها.. فجأة.. يرتفع العويل وتتراص النائحات صفا يرددن كلمات مبهمة ذ.. الصراخ يزداد حدة.. الكل ينتحب… خالتي حليمة لا تزال هادئة مطأطئة رأسها وفي حجرها الطفل الصغير يهدهد بقايا قرص خبز الشعير بأطراف أصابعه ويقضم منه تارة… الضجيج يملأ الآفاق والأعناق مشرئبة إلى الطريق المؤدي إلى القرية..

من بعيد يتراءى موكب من السيارات تتقدمهم سيارة إسعاف وأخرى عسكرية.. الموكب يقترب في هدوء تستقبله القرية بضوضاء عارمة، امتزج النواح وصراخ الأطفال بنباح الكلاب… منظر ألقى هالة من الحزن على القرية التي تستقبل في هذه اللحظات فقيدا آخر هو الابن الثاني لخالتي حليمة الذي يلقى حتفه بهذه الطريقة… يصل الموكب، تنهض خالتي حليمة، ترفع عينيها إلى السماء وتطلق زغرودة رددتها الجبال طويلا حتى صارت الدنيا تزغرد… يصطف مجموعة من الجنود بزيهم الأخضر المهيب… منظرهم أيقض فيها ذكريات راحت تبحث عن تفاصيلها في بقايا ذاكرتها علها تجد السلوى وهي تستقبل ابنها في تابوت مسجى براية تناسقت الألوان لتجعل منها منظرا يشرح النفوس ويقهر هالة الموت التي تحوم على المكان.. خالتي حليمة لا تزال هادئة تذرف دموعا غزيرة دون أن تنبس ببنت شفة… أمر حير جميع الحاضرين.. تخطو باتجاه سيارة الإسعاف… الجنود ينحنون إكراما لها… ترفع الغطاء عن التابوت بهدوء وتجلد.. الطفل الصغير لا يزال ممسكا بطرف ثوبها، يقتفي آثارها.. تلقي نظرة وتبعث بصرخة من الأعماق… إنها العاصفة التي تلي الهدوء الحذر .. هالها منظر ابنها الذي استحال إلى بقايا جسم بشري جمعت أجزاؤه و ركمت في ثوب أبيض، فراحت تلطم خديها وتصرخ في هستيريا استجابت لها القرية فصار النواح يشكل سمفونية حزينة تملأ الأجواء… الطفل الصغير بدوره راح يبكي وهو يتتبع خطواتها العشوائية.. الجميع واقفون لا يبدون حراكا كأنهم تماثيل قدت من حجر الصوان.. أعينهم شاخصة وهم يتفرجون على هذه المسرحية التي أراد القدر أن يعيد عرضها في القرية وأن تكون خالتي حليمة بطلتها للمرة الثانية.. باقي نساء القرية ممن مررن بنفس التجربة وجدن الفرصة للتعبير عن مكنوناتهن … خالتي حليمة.. أم الرجال.. هكذا كانت تسمى، أضحت وحيدة رفقة الطفل الصغير الذي لا يزال يبحث عن هدوئها ليركن إلى صدرها، يمتص منه الأمن و الطمأنينة.. خالتي حليمة .. خنساء العصر.. فقدت ابنها البكر رفقة زوجها في حرب التحرير ومنذ شهور اختفى آخر ولم تعد تعرف عنه شيئا، وقبل أيام شيعت ثالثا إلى دار القرار وهي اليوم تعيد الكرة… إنها الشجرة التي تغطي الغابة، أضحت عارية، تفقد أوراقها ورقة ورقة.. أغصانها تعانقت.. جذورها غزت أعماق الأرض تتشبث بأديمها.. تأبى الركوع .. ترفع رأسها أبدا يغزوا عنان السماء، لكنها تفقد أوراقها، مصفرة ذابلة.. تسقط واحدة تلو الأخرى.. الشجرة أضحت عارية تفقد شرفها والخريف يأبى الرحيل… خالتي حليمة منذ ذلك اليوم لم تعد تأتي إلى الحي الجامعي، فهي تذهب كل صباح إلى مقبرة القرية .. هناك حيث تقضي اليوم مع عائلتها باكية تستأنس بذاكرتها لتقاوم وحشة المكان و الزمان، ثم تعود في المساء لإحضار ابنها الصغير من المدرسة وتبني على أنقاض الموت حياة بسيطة، يقودها شعاع ابنها الذي استحال إلى بقايا حلم لا تزال تناضل من أجل تحقيقه.

1996

التسميات:

حب إلكتروني


مدخل: عندما استحالت شاشة الكمبيوتر التي أمامي إلى مرآة، صرت أبصر الفراغ الذي كان يعلو رقبتي.

النص: بين الوعي واللاوعي॥ الوجود واللاوجود.. بين برزخ اليقظة وبرزخ النوم.. في برزخ الحلم.. كنت أسبح في الأجواء طائرا بجناحين.. جناح يمتد من كتفي الأيمن إلى اللامنتهى.. وجناح هو ضلعي الأيسر المفقود.. وكان الحلم سرمديا.. طائر قادم من الحياة إلى الحياة.. بمنقاره يُقبل القلوب البلاستيكية العائمة في الفراغ فتنفجر محدثة ضوضاء في الكون الفسيح.. هكذا هي القلوب الرقيقة.. تنفجر لمجرد قبلة طائر قادم من الحياة إلى الحياة.. وتحدث ضوضاء في الكون الفسيح.. إنها لحظة مهربة من زمن عشاق الآفاق.. قديما كانت جدتي تقول.. حتى الأبالسة يتحابون كما أن الملائكة يتحابون.. وكان الحلم عبثا.. لا يحدث حتى في الأحلام.. على بعد متر من سريري حيث كنت أغفو في ظهيرة صيفية تلفح الوجوه، كان صديقي الوثن جالسا أمام شاشة الكمبيوتر.. يقوم بحركات آلية ثم يصيح بين الحين والحين.. لعنة الله عليكم.. أحيانا تغمره البهجة.. أحيانا يشتعل غضبا.. وبين أحلامي وأحلامه مسافة طويلة من الإزعاج المتبادل..


الحب المتبادل.. نعم لقد أحببته.. بصمته.. بنطقه النادر.. بكلماته القليلة.. بشكله المنحوت من حجر الصوان.. كان وثنا من القرون الغابرة.. لكنه يستعمل الإنترنت أحسن مني.. في لحظة ما استحال الوثن الصامت المتحجر إلى حسون طار يغرد في أرجاء الغرفة، بلا جناحين.. كالمجنون يقْلب عالي الغرفة سافلها.. من شدة غضبه.. أو فرحه.. لست أدري.. دائما كانت البرزخية تلازمني.. بعتمتها.. بضبابيتها الواضحة.. وكان الوثن برزخيا أيضا.. اسمع.. ماذا دهاك؟.. ناديته بعد أن انتشلني من زخم القلوب المتفجرة في الأجواء العالية.. لم يجبني.. وواصل ثورته.. اعتقدت في لحظة ما أنه فقد الإتصال بالشبكة ولعنت في سري هذه الآلات العجيبة.. لكنه نطق أخيرا.. اقتلعني بيديه من سريري.. هيا.. تعال.. انظر.. إنها هنا.. لقد ردت على رسائلي.. اقرأ من فضلك.. واصل القراءة.. تمعن جيدا.. وكاد أن يصمت من شدة الكلام.. كنت أرنو كمن استلبته اللحظة.. لم أفهم شيئا، لكنني فهمت كل شيء لما امتلأ وجه الشاشة بصورة مكبرة لحسناء قادمة من الشرق.. إنها صورتها يا صديقي.. إنها هي.. لقد عادت.. غادرتني يا صديقي منذ مئات السنين.. خلتها في يوم ما من المأسوف عليهم.. لكنها الآن أمامي.. انظر.. كم هي جميلة..

لم تعكر السنون صفاء وجنتيها.. شفتاها يا صديقي.. كنت أجني الشهد منهما في مواسم العشق المحرم.. شكرا لك يا آلهة الحاسوب.. شكرا لك .. قالها الوثن وانحنى ليُقبل شيئا ما تحت طاولة الكمبيوتر.. لم أكن في حاجة لتفسير كل ذلك.. فقط كلمتان تلفظت بهما ولست أدري إن كان سمعهما أم لا؟.. لكل زمن وسائله يا صديقي.. كان عنتر يهدم الأسوار ويقاتل قبائل بكاملها ليلتقي عبلة، وكان قيس يُسَخر الحمام الزاجل ليبعث بأشواقه إلى ليلى و كان روميو يقتفي آثار جولييت إلى الكنيسة.. وأنت.. أيها الوثن القادم من أدغال التاريخ.. كنت مجرد صنم وصرت الآن تحيا بروح العصر.. تحب عبر البريد الإلكتروني.. كنت أتكلم وصورة القلوب المتفجرة تملأ أفقي..

في لمح البصر صرت أرى صورة حبيبة الوثن في إطار معلقة على الحائط.. فقلت سبحان الله.. إنه زمن الحب الإلكتروني..

1999

التسميات:

دمعة


عاد الوثن.. البارحة كان الغسق يستدرج الليل إلى أحضان الطبيعة، وكنت أسافر مع أم كلثوم إلى سرير الحبيبة.. " يا حبيبي كل شيء بقضاء، ما خلقنا لنكون تعساء ".. أستحضرها، ويملأ طيفها سماء الغرفة الأرجوانية.. لم أكن وحدي، فالأسطوانة الرمادية تجعلني ثنائية غارقة في أحلام لا تنتهي.. فجأة دق الباب دقتين.. واحدة رومانسية والأخرى تصم الآذان.. بسم الله الرحمان الرحيم.. اللهم اجعله خيرا.. وتعود ذاكرتي إلى سنوات الرعب.. لا نافذة في غرفتي.. الفرار، أول فكرة اخترقت الصمت وداعبت خيالي.. كيف؟.. لا سبيل.. لا.. لا.. لاتخف، لقد مضى عهد الخوف.. بصعوبة أتقيأ كلمات ترتجف..

- من الطارق؟..

- أنا يا يوسف، أما عرفتني؟..

بدا الصوت غريبا..

- ومن أنت؟..

- أنا صديقك الوثن.. لقد عدت..

- صديقي الوثن.. أهلا وسهلا يا مرحبا.. يا مرحبا..

قفزت من السرير والفرحة تطير بي باتجاه الباب، وفي لمح البصر أدرت الدفة وإذا أنا في أحضان صديقي الوثن..

- حقا، أنت وفي..

كنت أقبله بلهفة الحبيب إلى حبيبه، لكنه كان يرتجف وعرقه يسيل وديانا تخترق تجاعيد وجهه..

ماذا دهاك؟.. ما الخطب؟.. لم يتكلم.. كررت السؤال ثم أردفت.. آه.. عدت إلى عادتك القديمة، وكان جوابه دمعة تسللت بين رموش عينيه ثم تمتم..

أدركه يا يوسف.. إنه ينشطر.. لم أفهم شيئا.. ينشطر.. من هو؟.. يجيب وقد صار صوته أكثر وضوحا.. الوطن.. يا يوسف.. الوطن.. وسكت الوثن..

خارج الزمن كانت قطرة تحاكم البحر، قالت أيها المغرور.. أنا من يصنع مجدك.. أنا من ينبض بقلبك..

وفي المحكمة اصطفت الكراسي وراح القاضي يفتش عن أوراقه.. وفي الخارج مدٌ لاينتهي من الأنفاس المكبوتة.. في ذلك اليوم قرأ الناس في الجرائد باستغراب.. قطرة تحاكم البحر في هذا اليوم.. قال القاضي ما خطبك يا آنسة؟.. لماذا تحاكمين أصلك؟.. فأجابت والغيظ يملأها.. لا يا سيدي.. أنا أصله.. قبل سنوات كنت ولم يكن.. كنت أصنع بهجة العيون وأعيد الوفاق بين الأحباب والعشاق وكان بروزي للشمس نادرا.. الآن هاهو يستهويني، يغريني بجبروته، يجبرني على مغادرة المآقي في كل مرة.. لقد تعبت يا سيدي.. أترابي وأقراني صاروا جزءا من هذا الجارف المهلك أما أنا فأقسمت أن لا أنضم إليهم.. كفى يا سيدي.. لقد صنعنا فرحة هذا الوطن قبل أربعة عقود والآن نصنع مآسيه.. سأعلنها ثورة من أجل أن تكف العيون عن ذرف الدموع.. من أجل أن تحل محلها نعمة السماء ويعود المطر ليعانق الثرى.. سيدي القاضي.. لقد قضي الأمر.. في هذه اللحظات استحال هدير البحر إلى خرير يحيي موات النفوس، وقفزت من خضمه ملايين العبرات تبحث عن سكن لها في مآقي الناس، أما القاضي فأمسك مطرقته وأعلن نهاية المحاكمة ثم هوى بها على رأسه ليسقط مغشيا عليه..

في اليوم الموالي كتبت الصحف.. دمعة وثن تعيد الوئام للوطن

التسميات:

فيض المداد


مدخل: عندما تجف العقول تنسج العنكبوت خيوطها على أديم المرآة



النص:

في البدء: كانت هناك أوراق مبعثرة، على طاولة خشبية يكسوها غبار الطلع المتسلل عبر النافذة من الحديقة المجاورة.. عبر النافذة امتداد يستدرج الأنظار إلى جبال تحرس المدينة.. تلتحف الجلال صامدة في ذاك المكان منذ الأزل.. على الطاولة مذياع صغير وبجانبه قلم وورقتان، واحدة موشومة بالسواد والأخرى عذراء تغري اليراع الرابض بقربها.. كان المذياع الصغير يبث أشجان موزار في سمفونيته التاسعة، فجأة أوقف برامجه وراح يرتل.. سيداتي وسادتي جاءنا الآن ما يلي.. اكتسحت فيضانات عارمة مختلف أحياء المدينة فأغرقتها في الوحل وخلفت ضحايا ومنكوبين.. هذا وقد أعلنت القيادة العامة تشكيل خلية أزمة لمتابعة الأوضاع عن قرب، بينما وصلت بعثة أجنبية إلى مطار المدينة للبحث عن مصدر السوائل الغريبة التي أوقعت الخراب بباحات المنازل وأحالت ساحات المدينة إلى يباب في لحظات.. وعادت أشجان موزار لتشنف الآذان مرة أخرى..

خارج الغرفة كان الجفاف يضرب بأطنانه بين تلافيف العقول.. قال الشيخ مسعود إمام مسجد الضاحية الجنوبية في خطبة الجمعة.. اللهم ارفع عنا غضبك.. اللهم لا تعذبنا بما فعله السفهاء منا، وبعد الخطبة وقف في الناس وقال.. أيها الناس دعوا سحابات الكدر تغادر قلوبكم لتمطر غيثا يعيد الحياة إلى الحرث والنسل.. أيها الناس لقد سالت دماؤكم.. فأصبح ماؤكم غورا وأقلعت سماؤكم عن البكاء..

بعد الصلاة تجمع الخلق خارج المسجد والحيرة تملؤهم.. آخرون تاهوا وسط الأوحال يبحثون عن أغراضهم.. كان السؤال الذي شغل تفكيرهم.. من أين قدمت كل هذه المياه الزرقاء والسماء زرقاء؟.. البعثة الأجنبية خانتها وسائلها التكنولوجية الحديثة وأرسلت تقريرا إلى السلطات العليا تعلن إخفاقها في تحديد مصدر المياه الزرقاء.. كانت الشوارع تسبح في بحر لجي.. وفي الشارع الرئيسي سار أحد الدراويش ينادي في الغادين والرائحين.. فكوا عقال هذا المسكين تنجلي عن بصائركم ظلمات الليل والنهار.. فكوا قيده وإلا أتاكم الطوفان من حيث لاتدرون.. وتعجب الناس من كلام الدرويش.. من ذا الذي يغرق المدينة ببطء ولا يعرف مكانه غير هذا المخبول.. وصار الدرويش يلفت الأنظار إليه بنداءاته التي ملأت ما بين الخافقين..

انسل الناس من كل فج عميق وساروا خلف الدرويش الذي فتح بابا بقرب مسجد الضاحية الجنوبية ودخل رفقة عمدة المدينة والشيخ مسعود.. بعد لحظات عاد وفي يده قلم ينزف وفي الأخرى ورقة بيضاء، عذراء من قوم عيسى.. اعتلى منصة وخطب في الناس يقول.. أيها المجانين.. هذا قلمي وهذه حبيبته.. كان يعانقها بين الحين والحين.. الآن طلقها بالثلاث رغم أنفه.. حرام عليكم أن تبثوا الشقاق بين حبيبين.. حرام عليكم أن تسجنوا عصافير الربيع وتجتثوا رنين الحياة من أفئدتها الصغيرة.. أيها المجانين دعوا هذا اليراع يحيا، اتركوه يمارس طقوسه، دعوه يؤلف بين السبابة والإبهام.. أيها المجانين.. هذا قلمي ينزف بدمي.. ستجرفكم سيول مداده إن أبعدتموه عن معشوقته.. إنه ينزف.. أرجوكم فهذا زمن نوح يعيد الكرة مرة أخرى.. على أديم المرآة نسجت العنكبوت نسيجها وأضحت صورة الدرويش من وراء خيوط العنكبوت كالسجين في زنزانته.. وعلى أديم الورقة العذراء قرأ الناس كلمتين.. أحبك ولكن.


التسميات:

طيش رصاصة


مدخل: عندما يستبد الطيش يستحيل العيش
النص: أخيرا تحررت من عقالها॥ كالسهم الناري انطلقت من فوهة البندقية॥ شقراء تسبح في الأجواء بسرعة الضوء॥ أطلقت صرخة مدوية معلنة بداية حريتها॥ كانت لحظة ميلاد متفردة॥ تحركت السبابة.. لامست الزناد.. حدثت شرارة.. سرت قشعريرة في جسديهما.. الزناد يحب السبابة، هكذا اعتقد الصياد عندما لاحظ أن شيئا ما يحدث تحت ماسورة البندقية.. هناك انجذاب غير طبيعي بين السبابة والزناد.. هكذا فهم الصياد.. مرة أخرى لامست السبابة الزناد.. توقف الزمن للحظة.. دهش الصياد.. هناك عصيان مدني تحت ماسورة البندقية.. حاول أن يسحب يده.. لكنها رفضت.. فجأة لاح في الأفق سرب من طيور النورس.. زم شفتيه.. جحظت عيناه ثم راحت تلاحق السرب.. تحت ماسورة البندقية كان الاشتباك في قمة عنفوانه.. قبلت السبابة الزناد.. عانقته.. ضمها إليه بعنف فتراجع إلى الوراء بضع مليمترات.. حدث انفجار.. بهت الصياد.. تفرقت النوارس وقذف الرعب ببعضها في خضم الموج المتلاطم.. كان البحر غاضبا ولا أحد علم بسبب غضبه، بعد الانفجار سمع الناس زغرودة قادمة من جهة الشاطئ.. اخترق صوتها هدوءا كان يلف عاشقين تحت السرو في الضاحية الجنوبية لمدينة الأوثان.. من فوهة البندقية ولدت رصاصة.. من علاقة غرامية محرمة بين السبابة والزناد.. رغم أنف الصياد.. ولدت لقيطة.. انطلقت من الفراغ بسرعة الضوء.. تبحث عن حضن يستقبلها.. عاهر فاجر.. شعرها أصفر يغري.. قوامها نحيف كالمها في الفيافي تتبختر.. في لمح البصر أبصرت جسدين تحت شجرة السرو.. استطلعت الأمر.. بدا الجسدان جسدا واحدا.. ثم صارا جسدين.. أكلتها الغيرة.. صارت تتأفف.. أقبلت على أحدهما اختارت موضع النبض فيه.. اخترقته.. تفجر شلال دم.. شعرت بزلزال يهز الجسد.. واصلت اختراقه.. نفذت منه.. أحست بقواها تخور.. عقدت العزم على مواصلة الطريق.. بكل حقد دفين.. اخترقت الجسد الآخر..تفجر شلال دم.. مكثت في موضع النبض برهة ثم انفجرت.. وقبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.. رددت كلمات.. قالت.. ما ذنب المسمار يا خشبة.. أحست بالندامة.. أدركت جسامة ما اقترفت.. ثم راحت تهوي في قعر ملتهبة على وقع أنات كانت أذناها تلتقطها من الفضاء الخارجي





التسميات:

أحاديث الصمت


حين نتوق للانعتاق، حين نشتاق، تغزونا الآهات.. تخوننا الكلمات، يتمرد الصمت و يخرج عن صمته.. تضيق بنا الفيافي، تهجرنا القوافي، تنطق الكلمات الخرساء وتضبط الألباب تأهبا ليوم الجلاء.

النص :

.. وتجلس الجدة برقلاح في الليلة التاسعة و التسعين بعد المائة التاسعة، تنبش في أعماق الذاكرة.. تعيدنا الآن إلى تلك الأيام التي أبت أن تغادر مخيلتها.. بوقار تنفض الغبار عن قصة امرأة كانت جارة لها.. المسكينة.. كلمة قالتها و تنهدت من الأعماق ثم استرسلت في سرد ذلك السيناريو المرعب.. خرجت من البيت يمتد الطريق أمامها كحبل لا ينتهي، واسع الصدر ضيق الأفق.. كانت ترنو في هدوء من استلبته اللحظة وقد استدارت الشمس تتخطى الأصيل ذابلة حزينة.. تخترق السحب كالسهم تستعجل الغروب.. منظر الشمس أيقض فيها ذكريات طالما حاولت نسيانها.. إنه الوداع يمارس طقوسه، تتذكر آخر مرة ودعت فيها زوجها.. كان مبتسما وقد ألجم الحديد كفيه وربطت يداه إلى الخلف .. اتركوه أيها الأوغاد॥ لم يكن بوسعها أن تفهم سبب اعتقاله.. تصرخ في يأس فلا مستجيب إلا الجبال تردد معها.. لم يكن بوسعه أن يكلمها و لا حتى أن يودعها.. بكت كثيرا.. تشبثت بأسماله.. استحلفتهم بكل شيء أن يتركوه، لكن شيئا لم ينفع.. كلمة واحدة سمعتها من أحدهم و هو يقول.. سيعود بعد أيام .. انتظرت طويلا و تلاحقت الأيام تقضم جسم الشمعة التي توقدها كل يوم فجرا أملا في عودته..
تجتر هذه الذكريات وهي تواصل سيرها بخطى متثاقلة كأنها في الطريق إلى المشنقة॥ تتنهد من الأعماق وقد سكنت الدنيا من حولها.. هي الآن في طريقها إلى مقبرة القرية.. هناك حيث يرقد زوجها منذ أعوام.. الطريق لا تزال طويلة و هي تشق التلال و الوهاد المنتشرة على امتداد سفح جبل "الرفاعة".. السكون يزداد وحشة لأول مرة تشعر بأن الهدوء يقلقها، و في كل مرة تخونها قدماها تأوي إلى صخرة ما على جانبي الطريق.. هناك حيث تلتهب ذاكرتها أكثر.. تتذكر زمن الصبا وأزهار الأقحوان.. تقطف زهرة ما .. تضمها إلى صدرها و تغرسها بين نهديها.. تتنهد مرة أخرى و هي تجول بناظريها عبر البطاح المجاورة وبذاكرتها في زمن الصبا.. كل شيء بقي على حاله إلا حالي أنا.. تكلم نفسها.. تهذي .. إلى أين؟ .. اتركوه.. من أنتم؟.. تقتحم الكوابيس ذكرياتها الجميلة، تستعرض في ذاكرتها صورة أحدهم و هو يقتاده إلى الخارج كالطير الجارح ينقض على فريسته.. تزداد سرعة دقات قلبها .. الغروب يدق أبواب الآفاق.. كل شيء على امتداد الطريق يلتحف هدوء حذرا.. ربما هو الهدوء الذي يسبق العاصفة.. تتمتم..أي عاصفة..؟.. تحاول طرد الخوف الذي استوطن داخلها.. لم تشك أبدا أن أحدا يلاحقها، الهوس يزداد اشتعالا في رأسها، وقد أبى الدمع مغادرة مقلتيها، البوم في كل مكان ينشد أراجيزه الممزوجة بنعيق الغربان।
وصلت إلى المقبرة وتخطت الأسلاك الشائكة واتجهت رأسا إلى قبر زوجها .. حركة ما هنالك كانت كافية ليتوقف قلبها عن النبض.. تشق طريقها بين الأجداث المهدمة وهي تنظر إليها خلسة.. إنها رهبة الموت॥لا بد أن لكل واحد منكم آمالا لم ينتظره الموت ليحققها؟ ॥ تسائل أهل تلك الديار في محاولة يائسة لاختراق الهدوء الذي يخيم على المكان॥ تصل إلى قبر زوجها.. تقبل رأسه بمرارة لأنها تعلم أنها لم تقبل رأسه وإنما رأس اللحد.. تضع الزهرة على صدره.. تخاطبه.. خذها .. إنها الميثاق الأول بين فلبينا .. وتحوم الذكريات مرة أخرى على ذاكرتها و يمتزج أسى الحاضر بفرحة الماضي.. ويتحرر الدمع سكيبا من مقلتيها، نبعا صافيا يسقي الحشائش التي نمت على اللحد.. تترجاه أن يقول شيئا.. اسمع
هاأنا ذا أسقي هذه الأرض بدموعي بعد أن سقيتها بدمائك، سيعلم الأوغاد بأن سيل دمائنا سيجرفهم ولو بعد حين.. تغيب الشمس و تبقى أشعتها مرتسمة في أعالي الجبال.. تحس بشعور غريب ينتابها.. تنتبه من غفلتها.. يقترب منها ثلاثة ملثمين.. يبادرها أحدهم بطلقة بين عينيها.. تصرخ.. لا .. لا.. وتخطفها الجبال من فمها لتبقى ترددها إلى الأبد.. تسقط على قبر زوجها فينتفض ليحتضنها و تختمر ذاكرتها بتلك الصورة.. تبتسم و هي تحتضر قائلة.. ستجرفكم دماؤنا و لو بعد حين.. تلفظ أنفاسها الأخيرة بينما بقيت أذناها تلتقطان صدى الجبال.. لا .. لا ..لا وتسكت الجدة برقلاح عن الكلام المباح بعد أن بدأت الدموع تتجول عبر أخاديد وجهها الوقور.

التسميات:

السبت، 23 أبريل 2011

أطلال العودة


॥لقد انتحر وأخذ معه أسباب انتحاره ॥ جملة ترددت طويلا على ألسنة أهل القرية في ذلك الصباح الذي يطبع تقاسيمه ضباب اكتسح القرية بعد أن تحصن طويلا وراء الجبال المجاورة، كأنه الفناء يهاجم الوجود، ودعت القرية ليلا حالك السواد لتستقبل ليلا أدخلها في حزن عميق على ذلك الفتى الذي افتقدته دون سابق إنذار॥ كان ذا وجه حزين ينبئ عن روح هادئة.. عاد إلى القرية من إحدى مدن الغرب الجزائري حيث يواصل إتمام واجبه الوطني في أداء الخدمة العسكرية، امتطى صهوة الخوف واخترق أفاق المجهول على امتداد الطريق الطويلة .. الفرق بين الموت والحياة لا شيء.. الفرق بين الأمل واليأس لا شيء ..

قد أجدهم في الطريق عندها ماذا سأفعل ..؟! هل أقول لهم بأنني أعمل "مونيفري"؟! أو أقول لهم بأنني أشتغل في تهريب السلع " ترابانديست" ..لا..لا.. سيحفظني الله كما اعتاد أن يفعل ولن أجد شيئا في الطريق لا حاجزا مزيفا ولا حقيقيا .. الواقع أن الفريق بين الزيف والحقيقة لا شيء .. وتنسحب من مخيلته الكوابيس لتطفح صورة حبيبته واضحة كأنها القمر يتوسط كبد السماء ليلة اكتماله، يفتح ثغره باسما ويسند رأسه إلى مؤخرة الأريكة بينما لا تزال الحافلة تطوي الطريق طيا وقد انقضى من الليل ثلثاه.. هاأنت الآن أمامي، وهاهو وجهك الطفولي يشع نورا.. أتعلمين كم أنا مشتاق لألمس تلك التقاسيم .. أتراك ما تزالين على العهد..؟!، أتذكر الآن آخر كلمة قلتها .. أنا في انتظارك .. هل أجدك في المحطة صباحا تنتظرين ..؟!
إلهي كم أود أن يطير بنا هذا السائق..
يعود ليطلق العنان لخياله يجول بعيدا، وتتراءى له صورته في المستقبل وقد أكمل مدة العامين وتزوج بمن يحب وهاهو الآن يعيش في النعيم.. فجأة تبرز صورة أبيها لتشغل كل الفضاء الذي فتحه لأحلامه واستعادت أذناه كلمات ذلك العجوز الأخرق وهو يطرده من أمام بيته.. - اعلم يا ولد الناس أنها لن تصير إليك ولو بقيت في فمي سن واحد.. - آه أيها الملعون سأكسر فمك ولن تبقى فيه سن واحدة وسآخذها شئت أم أبيت..
ينتفض في مكانه وقد صعد الدم إلى وجهه وتقلصت عضلاته وبدا غاضبا، مما أثار انتباه المسافرين إليه.. خاطبه أحدهم.. هون عليك يا أخي ما تزال الطريق طويلة.. فجأة يخفف السائق من السرعة بشكل أثار انتباه الجميع وفي حركة غريبة هبوا ينظرون إلى الأمام وبكلمة واحدة قالوا… هل هم في الطريق..؟!! وتصعد روحه إلى السماء ثم تعود في طرفة عين عندما أكد السائق بأن في الطريق حيوانات أليفة ولا شيء غير ذلك.. هكذا قدر لنا أن نموت ألف مرة .. إن الذي في مثل حالنا يحق له أن يعيش الدهر كله.. لا قيمة للموت بالنسبة للذي يموت عدة مرات في ليلة واحدة ..لا.. لن أموت، سأحيا من أجلها وإلا فسأموت من أجلها وليس هناك شيء آخر يستحق أن تزهق روحي من أجله.. يستسلم للنوم حيث الأحلام الجميلة، والكوابيس المزعجة تشكل تناقضا منسجما يجعله في حيرة مستديمة ॥ يستفيق وقد وصلت الحافلة إلى المحطة الأخيرة قرب قريته وقد أشرقت الشمس تحاول أن تجد طريقها إلى الطبيعة من خلال فلول السحب المتراكمة هنا وهناك يحمل حقائبه بعد أن تأكد من وجود عقد ثمين كان قد وعدها به وراح يحث الخطى عبر طريق طويلة تشق وديانا وتلالا كانت بالنسبة إليه حصونا يجب عليه أن يقتحمها..كيف لا وبعد ساعة سيلاقي حلمه الجميل.. يمشي في طريق غير معبدة وهو يسترق السمع ويتجسس على الطبيعة.. كل حركة ما على جانبي الطريق تثير فيه ألف علامة استفهام..
قد يكونون هنا فأنا صيد ثمين.. لكن لا أحد يعلم بعودتي. كان هذا هو عزاؤه الوحيد والحافز الذي يدعوه للسير باطمئنان وفي الطريق كان يلتقي أهل قريته قادمين إلى محطة الحافلات للتسوق فيحييهم بطريقته المعتادة متمنيا لهم طريق السلامة.. يصل إلى القرية وكله لهفة لمعرفة الجديد الذي يكون قد طرأ عليها، وبدل أن يتجه إلى بيت أهله مباشرة اختار أن يسلك طريقا أخرى حيث يمر على بيت حبيبته، وكم كان شوقه يلتهب وهو يهفو لرؤيتها في الحديقة تقدم الطعام للدجاجات أو تقوم بنزع الحشائش الضارة من المزروعات، كاد يطير شوقا إليها.. فجأة تنطفئ تلك الشعلة عندما رأى أباها هو الذي يقوم بذلك وقد استقبله على غير عادته بابتسامة بدت كأنها صادقة وراح يعرض عليه فنجان قهوة قبل مواصلة السير، كانت تلك الفرصة التي لا تعوض من أجل أن يرى حلمه الجميل.. ارتشف القهوة وهو يقلب نظره بين الباب والنافذة عله يلمح طيفها، لكن دون جدوى..
يحمل متاعه مرة أخرى مواصلا الطريق وقد أحس وكأن طفلا اختنق بداخله وامتلأ رأسه باستفهامات إن تحقق أدناها فسيكون حتما نهايته॥ يصل إلى بيت والديه فتستقبله أمه بالأحضان بينما حياه والده وأخذ مكانه على حائط الحوش للحراسة .. يجلس بجانب أمه صامتا كعادته وقد أقبل عليه إخوته يحيونه ثم فتح الحقائب ليسلم لكل واحد ما أحضره له وما إن رأت الأم العقد الثمين حتى انقبضت بشكل أثار انتباه الولد، وكانت تعلم كامل قصته مع بنت الجار.. يبادرها بالسؤال .. ماذا حدث..؟! قولي.. أجيبي.. احتارت الأم وتمنت لو تنشق الأرض وتبتلعها على أن تواجهه بالحقيقة .. صمتت برهة بينما راح هو يكيل أسوء الاحتمالات وقد تبدل لونه وأخذ يقلب العقد بين يديه، ولم تجد الأم بدا من مصارحته..
تعلم يا ولدي أن "المكتوب" لا جدال فيه .. لقد زوجها أبوها بابن عمها عنوة و أقاموا العرس الأسبوع الماضي .. أظلمت الدنيا في وجهه وأحس بعقدة عميقة تخرس لسانه وبدأت دمعتان تتجولان عبر تقاسيم وجهه.. هكذا ينهار كل شيء في لمح البصر، ينظر إلى ذلك العقد الماسي وهو كالمخمور لا يدري ما يفعل أو ما يقول .. يدخل والده .. انهض يا ولدي لقد أظلم الليل، ولا يمكنك أن تبيت هنا .. إن في كومة التبن مكان اعتدت أن أبيت فيه فهو آمن .. تصبح على خير .. بدون رد ينهض.. يتفرس وجه أمه .. تنهض محاولة مواساته.. إنه المكتوب يا ولدي ॥ يعطيها العقد.. خذيه إنه لك .. يخرج وهو لا يدري إلى أين.. يخطو يضع خطوات ثم يتوقف..
إلى أين ..؟! أنا هارب من الموت إلى أين.. ؟! الموت أرحم من هذه الحياة .. نعم الموت هو الوسيلة المثلى لاستثمار الحياة… الحياة التي لم يعد هناك سبب لوجودها .. لقد عشت من أجلها وتحديت الموت ألف مرة والآن تذهب لغيري .. أبوها.. أمي.. أبي، كل القرية ساهمت في انتزاعها مني.. .. أخرج ورقة وكتب .. أخبروها بأني عشت من أجلها وبأني أتمنى لها حياة سعيدة.. وبدل أن يتجه إلى كومة التبن اتجه إلى البئر ووقف على حافتها يسترجع أجمل لحظات عاشها .. ينظر إلى هوة البئر العميقة ويقول في يأس .. النوم هنا سيكون أحسن، ويقفز معلنا عن نهايته بصرخة انتبه لها جميع من في القرية.

التسميات:

الهوس


نتم الآن تقرؤون، تفكون رموز الطلاسم المرسومة على هذا البياض الناصع، أنتم الآن تمارسون السياسة لأنكم تقرؤون ॥ منذ قليل كنت بالمقهى الذي بجوار بيتنا.. في مكان قصي كنت جالسا قرب طاولة حولها أربع كراسي، الكرسي الخامس كان يئن من ثقل جثتي.. في المقهى أناس كثيرون كأنهم النمل يمارس طقوسه.. الضجيج يمتد إلى الحي المجاور، حول الطاولة المجاورة جلس أربعة شيوخ، الخامس كان واقفا لأنه لا يملك كرسيا، كانوا يتفننون في لعب " الخرقبة" وهي لعبة الشطرنج التقليدية.. على الطاولة الأخرى خمس شبان في يد كل واحد سيجارة.. تتعالى قهقهاتهم بين الفينة والأخرى .. شاب آخر كان يغازل صورته في المرآة المقابلة، وفي الجهة الأخرى أناس كثيرون، أراهم لكن لا أبصرهم।
في ركن مظلم علق مذياع صغير أسود اللون، كان يصدر صوتا خافتا لا أحد يصغي إليه، الكل مشغول ॥ كنت جالسا وحدي صامتا كعادتي.. تقابلني أربع كراسي شاغرة.. غاب عني الأصدقاء في هذا اليوم الربيعي، ولا أحد تجرأ على الجلوس معي، أخرجت جريدة من جيبي كنت قد أحضرتها عند عودتي من المدينة.. فتحتها ورحت أتصفح العناوين .. فجأة .. يلتفت الجميع … ينظرون إلي بعيون زجاجية لا تعرف حراكا.. آخرون يستعيذون بالله وآخرون ينصرفون من المقهى.. لم أجد تفسيرا لكل هذه التصرفات، طويت الجريدة ورحت أتفقد هندامي، ربطة العنق لا تزال تخنقني، اتجهت إلى المرآة .. لا شيء غير عادي، سألت أحدهم … ماذا حدث…؟! فلم يرد علي، عدت إلى مكاني وكلي علامات استفهام، أعدت فتح الجريدة فازداد الصخب من حولي وتعالت الصيحات .. إنه يمارس السياسة .. لا شك أنه جاسوس اقتحم قريتنا..؟! طويت الجريدة بسرعة وأخفيتها عن الأنظار، وقد نال مني الخوف كل منال حتى بدأ قوامي يرتجف .. لحظات ويعود الهدوء إلى القاعة الفسيحة الأرجاء، وقد تفطن صاحب المقهى لوجودي وجاء يسألني أي المشروبات أفضل، فطلبت منه فنجان قهوة وكوب ماء لأهدأ من روعي..

عاد الجميع إلى أماكنهم مواصلين أحاديثهم وعدت أنا إلى تفكيري، كنت أحاول أن أجد تفسيرا لما حدث.. أهل قريتي لم تكن هذه التصرفات من سيماهم في الماضي القريب.. لم يتعودوا إظهار هذه العنجهية في التعامل مع الآخرين.. كنت أبدوا في نظرهم كالخارج عن القانون، لأنهم لا يؤمنون بالجريدة ولا بما تكتبه الجريدة، كان قدري أن أتحمل مسؤولية الوعود التي أخلفها صناديد السياسة الذين زاروا القرية منذ أعوام.. كنت ذلك الشبح الذي لا يأمن شره أحد، وإلا كيف أفسر عدم جلوسهم معي على الكراسي التي كانت بجانبي.. وحتى لا أتهم بالزندقة قررت أن أخلع ملابسي التي اشتريتها من المدينة وأعلن عن رجوعي إلى جادة الصواب الذي يرضيهم .. وأن أضع طاقية على رأسي الأصلع وأنزع عني البذلة التي أبدت عورتي بينهم.. وألبس البرنوس.. ذلك اللحاف الأبيض الطاهر طهارة قلوبهم الكبيرة …
بينما كنت أهيأ نفسي لتنفيذ ما قررته، حدث شيء ما هنالك فاهتزت المقاعد وبدأت تتراقص بين الأرجل واتجه الجميع نحو المذياع الصغير يستقصون الأمر والجميع يطلب السكوت من الجميع .. عادت دهشتي ونسيت ما كنت أفكر فيه.. بقيت وحدي جالسا مشدوها مفتوح الفم لا أدري ماذا أفعل أو ما أقول.. أنادي على أحدهم فلا يلتفت إلي.. أبحث عن صاحب المقهى فلا أجده.. خارج المقهى بدا كل شيء غير عادي.. تسارعت حركة السيارات في الشوارع وازداد الضجيج حدة.. لم تكن إلا لحظات حتى وجدت نفسي كالعادة وحدي لكن هذه المرة في المقهى كلها.. .. في الركن المظلم لا يزال المذياع معلقا يبث موسيقى الناي الحزينة، تلك التي كان يعزفها جدي في الحقل عندما يتذكر أيام شبابه.. أنهض عن الكرسي، أعيده إلى مكانه، تسقط الجريدة من جيبي فأتركها وأخرج من المقهى مهرولا.. أستطلع الأمر.. ومرة أخرى أسأل أحد المارة .. ماذا يحدث..؟! فيبعدني بيده عن طريقه وهو يواصل سيره الحثيث، أعود لأسأل نفسي.. هل أنا شبح ؟ لا.. لا.. أنا أمام مقهى ( عمي عمار)، وذلك باب بيتنا لا يزال مغلقا॥ تقترب مني سيدة تبدو عليها علامات السفر، أسألها إن كانت تعلم شيئا فتجيبني بأنها مثلي لا تدري ما الذي يحدث… يمر أمامنا أحد الشباب الذين أعرفهم॥ كان راكبا على دراجته.. أناديه باسمه فلا ينتبه إلي.. فجأة يسقط في إحدى الحفر التي في الطريق فينهض بسرعة محاولا إخفاء آلامه.. يركب دراجته مواصلا طريقه إلى حيث يريد… أطرقت هنيهة، أحاول أن أتمالك نفسي.. وتعود الاستفهامات إلى رأسي.. حاولت أن اربط ما يحدث الآن بما حدث لي في المقهى مع أهل القرية فبدأت أشك في أنني سبب كل ما يحدث… هل أنا حقيقة شبح؟…لا…لا.. السيدة التي كلمتني منذ قليل لم تكن خائفة مني.. أنا إنسان مثلهم.. لكنني لا أعلم سبب نفيرهم هذا… مرة أخرى أجد نفسي وحيدا.. هذه المرة في الشارع بأكمله.. ركنت السيارات إلى مرابضها ودخل الناس بيوتهم وأوصدوا الأبواب، وقد استدارت الشمس تتوسط كبد السماء.. ساد الهدوء في الشارع وقد اشتد القيظ يملأ الأفق دفئا يخترقه نسيم ينبعث من الجبال المجاورة.. ازدادت لهفتي لمعرفة سبب ما حدث وما يحدث، اتجهت رأسا إلى بيتنا.. أطرق الباب.. أنتظر طويلا.. تفتح والدتي متثاقلة.. أبادرها بالسؤال.. كيف الأحوال فتجيبني وكأنها تخفي شيئا.. كما ترى يا ولدي.. أدخل غرفة الاستقبال.. أجد جميع اخوتي ووالدي حول التلفاز، جامدين كأنهم تماثيل قدت من حجر الصوان، أعلق على هذا المنظر في استهزاء ..أنتم أيضا في حالة استنفار ..! فيلتفت الوالد وعيناه مغرورقتان بالدموع قائلا.. اجلس يا ولدي لقد حدثت كارثة لقد مات الرئيس، جلست وقد تلاشت جميع الاستفهامات التي احتلت رأسي منذ الصباح। أسندت رأسي إلى مؤخرة الأريكة أتنفس الصعداء بعد أن تأكدت بأنني الوحيد الذي لا يمارس السياسة।



1994

التسميات:

إرهاصات الأفول


وحيد في غرفته .. الحي غارق في سكون مخيف.. ممدود في سريره يحدق في السقف بعينين واسعتين غير بعيد من نافذة تطل على أكبر شوارع المدينة.. الغرفة تسبح في ظلام دامس، يشقه ضوء خافت ينبعث من شمعة متآكلة في إحدى الزوايا تتهادى في هدوء رومانسي.. تتقاذفها نسمات تنبعث من النافذة المفتوحة.. على الطاولة في الجهة المقابلة جهاز مذياع يصدر موسيقى هادئة و بجانبه مرآة كبيرة تتباهى في كبرياء بصفاء وجهها.. على الطاولة أوراق كثيرة و قلم أسود.. هو الآن في الطابق السابع و في الشارع أضواء متسلسلة تظهر و تختفي…

هو الفناء في أسمى معانيه .. كلمة قالها و هو يتقدم إلى المرآة بجهد واضح..

أسئلة تحاصره الآن..

هل يمكن أن نقنع بحياة ليس فيها غد..؟ ماذا لو بُعث النبي في زماننا هذا..؟ هل سيوفر لنا مناصب الشغل..؟؟

ينظر إلى المرآة، يهم بكسرها ثم يتراجع..

لن أكون مثل ذلك الأعرابي الذي وجدك في فلاة ملقاة فقال.. لو كان فيك خير لما ألقاك صاحبك .. الوقوف أمامك محكمة أنا القاضي فيها .. أنا المتهم .. أنا الضحية حتما.. لا بد أنك مرتاحة في هذا المكان في حين أتعب نفسي بالوقوف أمامك.. لن أطيعك أنا عاص، هذا مبدئي الأول..

تتوقف الموسيقى المنبعثة من المذياع .. سيداتي.. سادتي إليكم هذا الخبر ..

قتل سبعون شخصا إثر انفجار في … من جهة أخرى هلك مائتي شخص جراء فيضانات.. وأدى التناحر بين طائفتي .. إلى وفاة مائة و خمسين مدنيا…

و تعود الموسيقى الهادئة … هو الفناء بعينه.. رددها مرارا ثم سكت .. يبتسم ضاحكا في سخرية واضحة…

لابد أن المذياع قد جن بل المذياع مجنون.. كيف تنساب أخبار الموت في هدوء تشكل سمفونية تبعث على الحياة من جديد.. ينظر إلى صورة جده ..

أنت أيضا كنت ضحية الفناء ، لكنك ما تزال حيا .. أنت الآن أمامي، قد أكون أنا الصورة و أنت الحقيقة… المرآة علمتني أن أكون صورة .. لا بد أنك تريد الكلام .. أعرف أنك لا تستطيع.. كما أن جدتي قالت عنك الكثير.. أنت من قاومت غزاة بلدنا ..لا بد أنهم عذبوك.. الآثار لا تزال في جبينك.. قد تبالغ جدتي لكن الجبال و الوهاد تنطق الحقيقة.. ليتك تعرف ما يحدث الآن..

يسكت و قد اختنق من الضجر .. يسكت المذياع… صمت رهيب يعم أرجاء الغرفة … تتحرك الأوراق .. النسيم يحدث الضوضاء .. هي لطافة العصر .. كذلك هي لطافة الفتيات.. تنطفئ الشمعة ..

أنت الآن خفاش ..قف .. أنت مجرد أكذوبة .. لست شيئا .. أنظر إلى نفسك .. أنت فحمه ..

يتفجر الصراع في رأسه و تتسع أبواب التيارات ..

أنا لا أخاف من الظلام.. لكنني أخاف ممن يبطش في الظلام.. هو الفناء يمارس طقوسه .. الظلام موحش .. لست أدري لماذا يفضل أبناء جلدتي الحياة في الظلام .. الحشرات أيضا.. ربما هم أيضا حشرات آدمية… يبحث عن النور.. النسيم يزداد برودة .. يتذكر ما قاله الأستاذ..

هل حقيقة أن العلم نور؟.. أربع عشرة سنة قضيتها في التعلم لا أظنها تستطيع إضاءة هذه الغرفة.. لا هذا هراء دائما كانت أفكاري سطحية، ثم ماذا يفيد هذا الكلام الآن .. ؟ كم هو قاس هذا النسيم..؟ ..

يقفل النافذة … كذلك أقفلت علينا الأبواب في كل مكان .. يتمتم .. يريد قول شيء آخر.. يصرخ … لا شيء يفيد .. يجد علبة كبريت في جيبه.. يوقد الشمعة..

هو النور يعود إلى حياتي ..أكره الظلام ..أكره الظلاميين أيضا .. في المدرسة علمونا حب الوطن.. أنا لا أجد تفسيرا لهذه الفلسفة.. المسؤولون يحبون الوطن.. كلنا نحب الوطن، لكننا نختلف.. الحب أيضا يختلف.. صديقي يحب زميلة لنا في الصف.. كلهم مجانين.. أستاذ الفلسفة يحب "ديكارت".. أنا متفوق في دراستي.. كل الأساتذة يحبونني.. الفتيات أيضا.. لكنني أحب الفناء.. إحداهن عيناها جميلتان لكنهما زجاجيتان.. لا.. لن أحبها.. هذا عصيان.. الذاكرة تلتهب أكثر..

لا أريد أن أذكر أكلي لفتات الحلويات المتبقي على الطاولات.. لا أريد أن أذكر أنني تسولت يوما في حالة تنكر.. هو الفناء يراود تلك الذكريات..

في المدرسة الداخلية كانوا يوهموننا بأننا طلاب علم.. كل شيء يوجد هناك إلا العلم.. أذكر أنني جدعت أنف أحدهم من أجل قطعة خبز.. أبناء الفقراء يقاسون الجوع هناك.. يضحون من أجل العلم.. لكنني أعرف أن جدران الشوارع تعبت من الوقوف دون معين..

يسكت مرة أخرى.. ينهض من مكانه.. يلمس صورة جده.. هي تجاعيد الشقاء تشكل تضاريس وجهه.. يخاطبه..

أنت بطل.. هكذا يقول عنك الناس.. لا بد أنك ستجن عندما تسمع أن الأحزاب التي حفظتها سورة بسورة قد تجاوزت الستين.. إنه مجون الساسة يصنعون الفناء على الطاولات..

فوق طاولته أوراق كثيرة وقلم يؤرخ للذكريات … يعود إلى المرآة .. يتأملها مليا ..

لا .. لا.. أنت كاذبة.. لست أسمرا.. لابد أن الغبار يغطي وجهك .. هو الزيف يطبع أيامي.. أنا لا شيء.. سبق أن قلت هذا.. الآخرون يعرفون ذلك..

تنهد طويلا ..اقتلع أنفاسه من العمق.. يرن الهاتف.. رقاص الساعة يقترب من منتصف الليل.. تسارعت دقات قلبه.. ترى ماذا حدث؟.. يرفع السماعة بلهفة.. ألو..ماذا هناك.. يجيبه صوت رقيق يبث نغما موسيقيا .. إنها معجبة .. لقد قرأت اسمه في الجريدة .. يضحك مقهقها ..

الوقت متأخر… شكرا على الاهتمام .. لقد قررت أنني لا شيء.. هذا لا رجعة فيه.. حتى الجريدة تنشر اسمي بعد ثلاث سنوات.. إنها العبقرية الحديثة.

يشعل سيجارة .. تنفث دخانا ينافس دخان الشمعة.. يختنق مرات عديدة.. هو الفناء يراود أيامه.. رقاص الساعة يواصل دقاته المتسارعة.. يفتح النافذة.. يلقي نظرة.. الجو لطيف.. عدد السيارات بدأ يتضاءل في الشارع.. يبدأ في العد .. يسكت .. يجب أن أجد طريقة أخرى للخروج من صراعاتي المستديمة..

يلقي بقايا السيجارة ويلاحقها بعينيه .. وتلتهب ذاكرته .. يتذكر فشله في شهادة البكالوريا .. يتذكر طرده من الشركة.. ينفث آهة كأنها آذان الفجر يدوي.. وحيد في غرفته.. يصرخ.. يقفز من النافذة .. إنه الفناء يطوي دفتر أيامه.



التسميات:

الجمعة، 22 أبريل 2011

المحطة المسافرة



مدخل:

" لكي تعيش بنقاء ضمير يجب أن تقتحم، أن تتعثر، أن تصارع، أن تقع في خطأ، أن تبدأ في أمر وتتركه، ثم تبدأ من جديد، ثم تتركه مرة أخرى، وأن تكافح أبدا وتعاني الحرمان أما الطمأنينة فهي دناءة روحية…"
تولستوي

النص:


.. أهل القمر على البلدة ونثر عليها أشعته الفضية بعد أن هاجمها الليل وجردها من الضوضاء ليترك الصمت يعزف ألحانه الدافئة رفقة أنغام الصراصير المنبعثة من كل صوب وحدب…


من بعيد يتراءى ضوء خافت ينبعث من غرفة تطل على شارع طويل يشق البلدة من أقصاها إلى أقصاها… في الغرفة إنسان لا يعرف عن نفسه غير هذه الصفة… ممدود في سريره يحدق في السقف بعينين واسعتين، بجانبه جهاز تسجيل يخرسه الصمت طويلا، وبالجهة المقابلة طاولة عليها أوراق وقلم أسود..

صمت طويلا ثم أصدر تنهيدة من الأعماق أحس بها وهي تصطدم بالجدران فيعود صداها نغما موسيقيا تطرب له الآذان… لم يجده الصمت الطويل فقد كانت الأفكار تتناطح وتتلاحم في مخيلته.. وضع شريطا سمعيا لأم كلثوم في آلة التسجيل وضبط مؤشر ذاكرته على بداية اليوم الذي يستعد لتوديع آخر لحظاته، وعندما بدأت أم كلثوم تصدح في آذانه (… فكروني…) كانت ذاكرته في بداية استرجاع أهم محطات يومه…

نهض في الصباح متكاسلا كعادته بعد أن مضى من اليوم الثلث، اتخذ مكانا له أمام البيت وراح يمتص حرارة الشمس التي توسطت كبد السماء وعلى امتداد الشارع تدب الحركة في كل شبر، رجال، نساء، يتحركون في كل الاتجاهات، أطفال يمرحون، سيارات ذات ألوان وأشكال مختلفة… الكل متفق على هذا الفعل العجيب، كلهم يتحركون إلا هو فهو دائم الجلوس في هذا المكان، يراقب الآخرين.. حز في نفسه أن يكون شاذا عنهم… لكن لماذا يتحرك…؟ ثم لماذا يقارن وضعه بالآخرين…؟!


أسئلة استعرضها في مخيلته وهو يرسم أشكالا غريبة في التراب وقد طأطأ رأسه على غير العادة… فجأة تلتقط عيناه شيئا متناه الصغر يتحرك قرب رجله اليمنى..

يحول نظره إليه فإذا هي نملة تحاول جر حبة قمح وقد بدت عاجزة عن ذلك ولكنها كانت تحاول … نظر إليها مليا، وهو يحس بوخز شديد في كل ذرة من جسمه…

يا إلهي حتى هذا المخلوق الصغير يتحرك… ليتني أعرف قصدها بهذه الحبة فأوصلها في لمح البصر.. وقد أحس بالرأفة عليها وهي تتعذب وخيل إليه أنها تكد وتجتهد من أجل إطعام صغارها الذين ينتظرونها في مكان ما، ثم ماذا يخسر من جهد إذا ساعدها في حمل حبة القمح، بل سيربح أجرا عند الله، بدا معتزا بقوته، لكن ما إن لمسها حتى اغتاظت وثارت ثورة جعلتها تدور في مكانها بحثا عن حبة القمح، فتعجب من رد فعلها وراح يراقبها بحذر والحيرة تملأ وجوده، ثم علق على المنظر باستهزاء… ربما حتى النملة تشعر بشيء من الكبرياء… وضحك في داخله ضحكة لم تستطع شفتاه أن تنقلها إلى الخارج، بينما انصرفت النملة ومعها حبة القمح إلى حيث لم يستطع تتبعها… رفع رأسه مرة أخرى يراقب حركة المارة وصورة النملة لم تغادر مخيلته بعد…

أسند ظهره إلى الحائط.. بدا وكأنه يكلمه… أنت أيضا لا تتحرك كما أن هذا الحجر لم يستطع تغيير مكانه رغم أنني أثقلت عليه بجثتي.. ولم يغب عن إدراكه أن هؤلاء الذين يخاطبهم هم جماد بطبعهم بينما هو إنسان بلحمه وشحمه، ولم يستطع أن يقنع نفسه بأنه مجرد حيوان ناطق، وما يعنيه ذلك من تجاهله لماضيه الذي كرسه لطلب العلم، فهو مثقف.. وحائز على شهادة جامعية، بل وكان من المتفوقين… يجتر هذه الذكريات وهو يتفرس في وجوه المارة وفي كل وجه كان يقرأ آلاف القصص والأحداث.. هذا يلهث وقد أثقل كاهله كم هائل من قطع الخبز… ترى هل سيطعم قرية بأكملها…؟! وذاك يمشي بخطى وئيدة ثابتة تخنقه ربطة العنق… واضح أنه إطار في إحدى المؤسسات، وتلك تبعث برائحة زكية وكأنها قارورة عطر متنقلة، ينظر إليها بدون تركيز حيث كاد أن يقنع نفسه بأن فعل الحركة يسيطر على كل شيء.. ترمقه بنظرة غريبة ثم تواصل طريقها وقد بدا وجهها كوجه مهرج من أثر الأصباغ…

لابد أنها تبحث عن زوج…؟! في كل الأحول لن أكون أنا… يبتسم وهو يغير وجهة نظره ومن بعيد يتراءى له شبح امرأة يقترب رويدا رويدا بحجابها البني وخمارها الأرجواني، منظر الفتاة أيقظ فيه ذكريات أعادته عنوة إلى أيام الجامعة وطفت في مخيلته صورة المرأة التي لم تكن ككل النساء، كاليائس راح يفرك يديه تارة يحك في رأسه تارة أخرى॥ يتنهد وهو يتابع خطواتها، لكنها ليست هي، سبحان الله॥ يخلق من الشبه واحد وأربعين… يتنهد مرة أخرى كمن يختنق ويرمي بجسده المتهالك على الحائط… فجأة يتوقف جميع من في الشارع بحركة آلية موحدة ويلف الصمت المكان … يبحث عن السبب … ترى هل توقف الزمن…؟! … ينظر إلى مؤخرة الشارع فإذا جمع غفير من الناس يمشون وراء سيارة تسير بتمهل وهم خاشعون وكأن الطير على رؤوسهم… لابد أنها مسيرة ضد نظام الحكم أو للمطالبة بزيادة الأجور وقد تكون مسيرة للبطالين الذين يطالبون بمناصب الشغل.. يشعر برغبة ملحة في الانضمام إليهم… لكن سرعان ما يدرك بأن الأمر يتعلق بجنازة… ينهض من مكانه ويقف شبه مستعد، تماما كما يفعل الجنود ويمر الموكب يشق الشارع في هدوء رومنسي… يعود ليجلس وقد عادت الحركة إلى جميع الذين أصبحوا تماثيلا في لحظة واحدة… الله أكبر… إنه الحق… الموت نهاية كل حركة والسكون الأبدي لكل ذي روح، الموت هو الحدث الوحيد الذي يعلمه الآخرون ويجهله المعني بالأمر.. ترى هل هذا الميت يعلم بأنه قد مات..؟!.. ترى هل هذا الميت حزين على نفسه كما يحزن عليه هؤلاء…؟! ثم لماذا توقف المارة ينظرون إليه، وكأنهم مذنبون …؟! أراءيت إن كان حيا، هل سيمنحونه كل هذا الاهتمام …؟! الحقيقة أشك في ذلك لأنهم كانوا يقومون بأفعال خارج إرادتهم أو على الأقل هذا ما شعرت به أنا … ولم يشأ أن يدخل في متاهات الأفعال اللاإرادية التي تعيده حتما إلى تذكر الجامعة وشهادة الليسانس في علم النفس… بينما هو كذلك تناهى إلى سمعه مزيج من الضوضاء، تشكله أبواق السيارات وأزيز محركاتها… رفع بصره يستطلع الأمر فإذا هو موكب آخر ولكنه مفعم بالفوضى والأهازيج، وبسهولة فهم أن الأمر يتعلق بحفل زفاف وهاله أن يشيع قبل قليل إنسانا زف إلى دار البقاء، وهاهو الآن يستقبل عروسا تزف إلى دار الفناء… لم يستطع أن يتخلص من الدهشة التي تملكته فراح يلعن هذا الوجود الذي يشكل العبث منعرجاته… لكن هذه هي الحياة … كلمة قالها وهو ينظر إلى تلك الوجوه المنشرحة وراح يقارنها بالوجوه التي كانت تشيع الجنازة ولم يغب عنه أن الأشخاص الذين كانوا واجمين عندما رأوا الجنازة هاهم الآن يحيون العروس ومن معها بابتهاج وحبور।



1999

التسميات:

عيد ميلاد

مدخل: في عيد ميلادك قال برجك .. أنت إنسان عاطفي .. حساس إلى حد لا يطاق.. طبيعتك الهوائية تجعل علاقتك مع المحيط كعلاقة الرماد بالرياح.. الطرف الآخر لا يزال ينتظر إشارتك، أوضاعك المادية ليست على ما يرام .. واجه مشاكلك بشجاعة فالنصر حليفك.

النص:

كذب المنجمون ولو صدقوا .. كلمة قلتها وأنت تنهي قراءة طالعك في إحدى الجرائد اليومية.. كذبوا أو صدقوا.. لا يهم.. كل ما قاله الحظ صحيح فلا مفر من تصديقه.. افعلها اليوم فقط فهو يوم مميز.. أنت الآن بصدد إحياء عيد ميلادك.. لأول مرة تتذكره وينساه النسيان.. المرارة كانت تطبع معظم أوقاتك.. لذا فأنت الآن تعيش على أمل أن يكون هذا اليوم مختلفا، كيف لا وهو اليوم الذي رأيت فيه النور لأول مرة.. أنت لم تمسك بالزمان فحسب بل تمكنت من المكان أيضا… تعود بعد سنوات من الهجر إلى مسقط رأسك " إيساغيثن " حيث تناكحت التضاريس مع ذرات المطر لتحبل بقلب أخضر لقرية "مركوندة" التي تنام منذ زمن طويل في هذه المكان، يحرسها جبلي "الرفاعة" و"بوغيول" .. بطريقة ما أنت الآن هنا.. في المكان الذي أيقظته صرختك الأولى من نوم عميق قبل عقدين من الزمن .. المكان والزمان يتحدان، يعيدان تشكيلك من جديد.. " إيساغيثن " الكلمة الشاوية التي تعني شجرة اللوز البري، تلتحف بساطا أخضرا، هو المكان الذي يحتضنك الآن بعد أن احتضنك وأنت طفل صغير، ترابه يحن إلى رائحتك .. الأشجار، الأودية، الأحجار.. كل شيء يود أن يضمك.. ، الزمان مساء خريفي مكفهر، الضباب يكسوا قمم الجبال، السحب الداكنة السواد تشكل تقاسيم وجه السماء والرياح تسافر في الخلاء مصفرة، تلهو بأوراق الخريف المتناثرة هنا وهناك … في جعبتك شموع بتعداد سنوات عمرك وأوراق وقلم أسود… بيتك كوخ صغير أضحى أطلالا ترثي ذكريات بدأت تتطفل وتطفو على ذاكرتك … هو ذا بيتك قبل أعوام، تسكنه الآن الثعابين والعقارب وهوام الكائنات ويسكنه السكون أيضا.. المساء بدأ ينقرض، الشمس لم تشرق اليوم أو ربما أشرقت وسلكت طريقا آخر.. السحب لا تزال تشكل حاجزها المزيف.. تمنع النور الذي بدأ الظلام يراوده .. المساء يلقي ظلاله المخيفة على قرية خاوية على عروشها إلا من قلب واحد ينبض هو قلبك .. هنا بدأت نبضاته الأولى.. أمك حكت الكثير عن تلك الليلة.. جاءها المخاض في ساعة متأخرة .. لا مستشفى ولا ممرضات.. أبوك كان غائبا وأنت كنت الثمرة الأولى في الأسرة.. بين أربعة جدران.. أمك مستلقية في مكان ما.. الألم يتنقل بين ضلوعها كأرجوحة طفل صغير تروح وتجئ، الظلام العائم يجتاح المكان.. لا كهرباء ولا مدفأة.. حتى الفانوس ذهبت الرياح بنوره وبقيت جمرات تتلألأ في التنور وتبعث بدفء لا يلبث أن يستحيل إلى برودة بعد ابتعاده عن الرماد.. الألم يشتد في أضلعها، وأنينها يتجاوز حدود المكان .. الرياح تعصف في الخارج، البرق بدأ يشكل إمضاءاته على صفحة السماء.. أمك تتألم وأنت تسبح في بحر لجي.. تستجمع قوتك.. تبحث عن منفذ لتخرج إلى أقطار السماوات والأرض.. أنت قارة تسبح في محيط هائج.. منذ أشهر كان هادئا.. الآن سيقذف بك إلى أكوان أخرى.. أمك تبدأ في الصراخ.. الجيران يهرعون لاستطلاع الأمر .. أحدهم يذهب لإحضار ( نانا حاجوزة) قابلة القرية… تأتي مسرعة، تحمل شبه حقيبة فيها عظام حيوانات.. أعشاب وجذور نباتات.. (نانا حاجوزة) تتفوه بكلمات لا تفهمها.. أمك تمسك بحبل يتدلى من السقف الذي يشكله جريد النخل وحطب العرعار ومغطى بلفافة بلاستيكية عليها أطنان من التراب.. الألم يشتد، الرعود في الخارج تقصف ووميض البرق صار يضيء الدنيا.

( نانا حاجوزة) لا تلبث أن تتجه إلى كوة تطل على الطبيعة ثم تعود وهي تردد.. سيدي عبد القادر .. سيدي عقبة..؟ ! سيدي.. أنت تعلن الحرب على المكان.. سئمت من السباحة في بحيرة تتجاوز حجمك بقليل.. يزداد ضغطك.. الألم يهزم ما تبقى من مواقع المقاومة في جسد أمك.. الصراخ يملئ القرية لكن لا أحد يسمعه.. الطبيعة لا تزال غاضبة.. الأمطار الرعدية تملأ كل شيء بالماء.

( نانا حاجوزة) قالت وهي تلهث.. لا بد أن قربة قد انفجرت في السماء.. الألم يزداد حدة.. أمك تتشبث بالحبل بكامل قواها وتطلق صرخة رددتها الجبال رغم صخب الطبيعة، وتجذب الحبل فإذا بالسقف ينهد ليتحول إلى ركام يغطي أنفاسا خافتة..

تتسلل أنت من تحت الردم … تبكي … هكذا ولدت باكيا لتبقى شاكيا إلى الأبد.. تبحث عن شيء.. يهرع القوم لإنقاذك من تحت الأنقاض.. تتبلل بماء المطر، يغسلك وأنت عاري الجسم، ضيف يطأ الدنيا لأول مرة … تحس بنشوة الحياة تسري في جسدك … ( نانا حاجوزة) فارقت الحياة لتهبك إياها، بينما بقيت أمك بين الحياة والموت.. تقاوم كما دأبت أن تفعل .. تريد أن تراك ذات يوم رجلا.. ومن أجل ذلك هزمت الموت وعاشت طويلا.. أنت الآن رجل.. لم تكن كذلك يوم ولدتك أمك، وقبل ذلك كنت رغبة في أعماق النفس البشرية، وفي لحظة ما قالت الفطرة كلمتها فكنت مخلوقا ضعيفا لا يقوى على شيء.

تتوقف عن استنطاق المكان.. الزمان يتجاوزك الآن.. الليل يمضي كقطار يأبى التوقف.. ظلامه يتسلل إلى أبسط جزيئة في كيانك.. المكان موحش .. لكن شعورك يملؤه الأنس.. تخرج الشموع من جعبتك تضع في كل ركن شمعة والباقي على الرفوف.. توقدها جميعا فينتشر النور في الخراب لتصبح أطلال بيتك كنجمة مضيئة.. يسود الصمت بعد أن هدأت الرياح وراح النسيم يداعب لهب الشموع فيطفئها واحدة بعد أخرى، إلى أن بقيت شمعة واحدة اقتربت منها وأخرجت أوراقك والقلم الأسود ورحت تكتب..

التسميات:

روح الشعب

… أوقف التلفاز بث برامجه وظهرت مذيعة شاحبة الوجه.. سيداتي وسادتي جاءنا هذا البلاغ… لقد تمكن المتمرد الزنديق، عدو الشعب من الفرار من زنزانته الواقعة تحت الأرض في إحدى التلال قرب العاصمة، هذا وقد أعلنت حالة الاستنفار في جميع فصائل القوات المسلحة وشرعت فرق من القوات الخاصة في البحث عن هذا الخارج عن القانون.. إضافة إلى ذلك فقد رصد جلالة الملك مكافأة سخية لمن يدل على مكان وجوده أو يلقي القبض علي.. وتختفي المذيعة ليبدأ التلفاز في بث أناشيد وطنية وأغاني تمجد الملك.

كان في المقهى بإحدى أحياء العاصمة وقد أشرقت الشمس وتثاءبت مداخن المدينة معلنة عن استيقاظ السكان… وبعد ليلة قضاها في الحفر هاهو الآن في ركن مظلم وقد تابع بلاغ التلفاز وجلس يراقب حركة المارة.. كل حركة مشبوهة تثير فيه مئات الأسئلة وتسري قشعريرة في جسده.. ينظر إلى الناس بريبة… لابد أن كل هؤلاء يطمعون في المكافأة … لم أكن قبل الآن أعرف بأنني صيد ثمين… تختلج هذه الأفكار في مخيلته وقد ازدادت حدقتا عينيه اتساعا وصار أكثر يقظا… ينهض من مكانه، ينظر يمينا ثم شمالا، يخرج من المقهى يختلس الخطى.. بدا له وكأن كل الخلائق تراقبه…

يا إلهي ما أضيق الزنزانة.. قالها وهو يبعث بناظريه تخترقان الآفاق.. كم أنت جميلة، الآن أدركت لماذا يبذل الناس أرواحهم لفداك.. بدا وكأنه يغازل أحدا، أحس وكأنه يطير بلا أجنحة، وبرغبة شديدة في الصراخ.. يا إلهي وكأن شيئا سيخرج من داخلي … يهم بالصراخ.. فجأة يتذكر التلفاز وتقفز إلى ذاكرته صورة الجلاد على باب الزنزانة فيحس وكأن سهما يشقه نصفين… أين المفر الآن ..؟ عيون الملك في كل مكان، كما أن سخاءه سيعجل بعودتي إلى الزنزانة … لا … لا أرض الله واسعة.. إذن علي أن أخرج من المدينة فأنا خارج عن القانون وحياة البراري قدر من يرفع رأسه ليرى نجوم السماء في وضح النهار… لكن كيف…؟ وتأتيه رائحة ليست غريبة عنه.. يلتفت فيجد ممرا إلى داخل المجاري )قنوات صرف المياه القذرة ) وتطفح إلى ذاكرته صورته وهو يقوم بتنظيف المراحيض في السجن… المجاري أفضل سبيل يوصلني خارج المدينة.. الزنزانة تحت الأرض.. المجاري بقذارتها يحتضنها قلب الأرض الطاهر، وغدا لنا فيها شبر يدعونا كل لحظة لحفره.. إنه الموت يتلون كالحرباء.. بخطى وئيدة وذهن شارد كان يجوب الشارع، يتجه إلى أقرب قناة لصرف المياه.. يفتحها بسرعة ويدخل وقد أحس بالأمان بعد أن خطى خطوتين إلى الأمام يتحسس المكان، في حين بدأت أعداد كبيرة من الجرذان في الفرار.. يخاطبها.. لا تخافوا.. لا يمكن للجبروت أن يتسلل تحت الأرض … الرائحة ليست زكية هنا، لكنها أزكى من رائحة الزنزانة، كما أن هذا المكان ممتد والزنزانة محدودة تماما كمحدودية آفاق الملك وأشياعه .. بثقة فائقة يواصل سيره وقد لازمت صورة الزنزانة مخيلته حتى بدأ التعب يغزو جسده، وبدأت أمعاؤه تصدر موسيقى مبهمة التقاسيم.. الجوع.. تلك السيمفونية التي يعزفها الفقراء في القرى البعيدة التي تنام قبل مغيب الشمس لتستقبل الفجر.. تسعى في صمت غير أبهة بشؤون الحكم والسياسة… يذكر السياسة ويغيب عن الوجود كنجم طاردته أشعة الشمس فاحترق ليضيء لها الطريق… أسند ظهره إلى جدار المجاري وهو يجلس القرفصاء وقد غط في نوم عميق لا حلم فيه.. فجأة يحس ببلل يلامس أطرافه السفلية ليتحول بعد ذلك إلى طوفان يعبث بجسده… يستفيق من النوم وقد جرفه التيار عدة أمتار… يحاول أن يستعيد توازنه.. كان عليه أن يسبح عكس التيار كما اعتاد أن يفعل، تواجهه رائحة كريهة، تخنق أنفاسه، يتحسس ماء السيل فيجده أكثر لزوجة… ترى أي نوع من الماء هذا..؟! يحاول جهد نفسه أن يواجه التيار المتدفق، كان من حظه أن القناة لم تمتلئ بعد.. بجهد واضح يحاول تمالك نفسه وقد كاد يفقد وعيه من نتانة الرائحة… يضع منديلا على أنفه وقد فقد المقاومة ضد التيار فاستسلم وراح يسبح في رحلة لا يعلم مداها ولا منتهاها، وطيلة المسلك كان يحاول اكتشاف نوعية السائل الذي يجرفه تياره.. فجأة يصيح متعجبا… يا إلهي إنه (البترول)…! هكذا أيها السائل النحس، تلاحقني حتى تحت الأرض، أما يكفيني ما نلته بسببك طيلة عشرة سنوات في الزنزانة… وتقطع تفكيره صرخة تنبعث من جوفه منبئة عن خطورة الأوضاع في أمعائه… الجوع ما يزال يمارس شذوذه في منعرجات معدتي التي لا تزال تبعث برائحة الصابون الذي أكلته بالأمس… يحاول أن يتشبث بجدران القناة الوسخة فلا يستطيع… كمن يتحدث مع أحد… يمكنني الآن أن أملك ما أشاء من هذا السائل، بل يمكنني أن أشرب حتى الثمالة.. كان خطئي أنني طالبت بليتراتي.. تكفيني عدة لترات لأكون ثريا.. لم أكن أعلم بأنني أطالب بجزء من دم الملك… ولما تراءى له النور من بعيد أيقن بنجاته وطفت ملامح البشر على محياه ليستفيق على حقيقة أخرى… لكن أنابيب ( البترول) تصب في مصافي على شواطئ البحر… لابد أنني سأتعرض لعملية تصفية وستحللني المواد الكيميائية وأصير ( بترولا) وهكذا أكون قد خدمت الملك من حيث لا أريد… فجأة يسمع حوارا بين اثنين بعد أن برز إلى النور وأخذه التيار عبر منعرجات تصب في هاوية عميقة… الأول:… أنظر يبدو أن هناك جسما قد جرفه التيار… أنظر ما هو…

الثاني: إنه إنسان بجلده… يبدوا أنه لا يزال حيا.. اسحبه إلى الخارج لنستطلع أمره.. ويسحبه ذلك الطويل بخباشة تماما كما تصطاد السمكة… يخاطبة أحدهم.. لا بد أن أمك قد ولدتك في دورة المياه…!! قالها بسخرية وأطلق ضحكة ملئ شدقيه ثم همس في أذن صاحبه… لابد أنه يحمل في دماغه أشياء يعاقب عليها القانون.. أنظر.. إنه يشبه ذلك الزنديق الذي رأينا صورته في التلفاز.. انتبه مضطربا فأشار إليه أحدهما بيده.. اجلس حيث أنت فأنت الآن كنز ثمين، أما الآخر فقد سارع لإخبار الشرطة… وما هي إلا لحظات حتى طوقت القوات المشتركة المكان وحطت طائرة مروحية بقربه نزل منها أناس ملثمون ومدججين بالأسلحة يتقدمهم رئيس الشرطة الذي ما إن رآه وتحقق منه حتى وقع مغشيا عليه وقام الآخرون بتكبيله ووضعوه في قفص حديدي وحملوه إلى الملك.

رن الهاتف في كل مكان واشتغلت أجهزة الفاكس تنقل الخبر وظهرت المذيعة من جديد تبشر الناس بالقبض على الزنديق وبدأ التلفاز يبث أغاني الفرحة والانتصار، بينما تسارعت حركة المارة في الشوارع وركنت السيارات إلى مرابضها ودخل الناس بيوتهم وأغلقوا الأبواب، وبعد مدة أعلن التلفاز أن الزنديق سيحاكم أمام الملأ بعد ساعة في ساحة القصر الملكي، وتقاطرت الجماهير على المكان يحملون أعلاما سوداء وأوعية تعبر عن مساندتهم لمطلب الزنديق بأخذ نصيبه من ( البترول) وجاءت المدينة بصغيرها وكبيرها، وبرز الجلاد على يمين الملك ورئيس الشرطة على يساره، بينما بقي العدد الهائل من الجماهير صامتين كأن الطير على رؤوسهم، ودقت ساعة الميدان معلنة بداية المحاكمة، وقد بدت الشمس تستعجل الغروب وكأنها لا تريد أن تكون شاهدة على جريمة أخرى يقترفها الملك، وجاءوا بالمتمرد مكبلا بالأغلال وألقوا به وسط الحلبة ثم نادى رئيس الشرطة يخطب في الناس … هذا جزاء من يتحدى إرادة الملك وسيناله كل من تجرأ على معارضة جلالته… في الحين بدأت الجماهير في قرع الأواني وساد المكان صخب كبير أعقبه صمت رهيب عندما تقدم الجلاد باتجاه الزنديق ونادى صاحب الشرطة مرة أخرى… إن جلالة الملك أمر بأن تقطع أوصال الزنديق إربا إربا، ثم تجمع في أتون كبير وتحرق وتحمل طائرات سلاح الجو مادته وتذروه في كل مكان من المملكة، عند ذلك صعق العديد من الحضور وبدأ آخرون في البكاء وامتلأ الباقون رعبا إلا امرأة واحدة فقد ابتسمت عندما رأت الزنديق يبتسم وهو بين الأغلال كالطود العظيم..

في الصباح شاهد الناس جيوشا تدخل المدينة يقودها الزنديق الذي تم إعدامه بالأمس وكل واحد منهم يشبهه وأكثر قوة منه واتجهوا رأسا إلى القصر الملكي وما إن رآهم الحرس حتى هربوا تاركين أسلحتهم ودخلوا يتقدمهم الزنديق حتى أشرف على إيوان الملك، وما إن رآه ومن معه حتى ارتجفت فرائصه وتعاقبت الفصول الأربعة على وجهه وجحظت عيناه وهو يرى الآلاف من نسخ الزنديق الذي أشرف على إعدامه بنفسه تخترق حصونه وبينما هو كذلك انشقت الأرض بين قدميه وابتلعته حتى النصف.. إذ ذاك سقط التاج عن رأسه وبدأ يتقيأ ما يشبه ( البترول ).

… الآن آن لك أن تستفيد منك الشعوب المقهورة وتصير ( بترولا) أو سمادا ينبت الزرع الذي يملأ الأفواه الجائعة…

وقبل أن يكمل الزنديق كلامه قاطعه الملك …

بالله عليك من أنت ومن هؤلاء؟ فأجابه أنا روح الشعب وهؤلاء إرادته

التسميات:

مدفع الكروش

مدخل: كان ذلك سنة 1971 عندما عانقت الطبيعة كبرياء رجل جزائري لتحبل بمعجزة.. مدفع الكروش باب آخر يفتح على الأسطورة الكامنة في عمق الحقيقة.. " بوثعلاوت" راود الأوهام فاستحالت إلى حقيقة، حيث اتحدت البساطة بالشجاعة واستبد العدم عندما اختفت الوسائل..

النص :

قرية "مركوندة" هذا المساء تبدو حزينة على غير العادة، تشكل تقاسيم أديمها المترامي الأطراف وديانا تخترقه كأنها العروق تبث الحياة في كل مكان.. هي تجاعيد حفرتها الطبيعة جداول يجري بها الماء رقراقا على مدار السنة.. إنها نائمة في هذا المكان منذ الأزل تتوسد مرتفعات "إيذشل" وتلتحف بساطا أخضر كأنه السندس المهرب من الجنة..
أسرعت الشمس إلى المغيب وعلت القرية جلبة الضوضاء تشكلها صيحات التيوس وثغاء النعاج وهي تتدحرج صفوفا متراصة تمتد من سفح الجبل إلى أعلى قمته. في المؤخرة كان "بوثعلاوث" رفقة كلبه "فرعاس" يحاولان إعادة النعاج الشاردة إلى الكوكبة.
لم يكن هذا اليوم يختلف عن باقي أيام "بوثعلاوث" إلا أنه أحس بشعور غريب ينتابه منذ الصباح، ولم يكن يدري ما طبيعته إلى أن لمحت عيناه منظر بستانه وقد قطعت العديد من أشجاره، وعلى القرب منه منظر فرسه وهي مذبوحة تسبح في بركة من دمائها.. لم يصدق عينيه فراح يفركهما بقوة.. أمسك عصاه بكلتا يديه وهب مسرعا يستطلع الأمر وقد هاله أن يرى فرسه على تلك الحال، بينما قام الكلب "فرعاس" بمهمة اقتياد القطيع إلى الزريبة.
وصل بوثعلاوث إلى البستان وقد امتقع لون وجهه واحتقنت الدماء فيه حتى صار كحبة طماطم متعفنة.. ينادي على زوجته.. تخرج مسرعة..

يبادرها بالسؤال : من فعل هذا..؟.
تجيبه.. ومن غيرهم..؟.
من هم.. ؟ هيا قولي وإلا كسرت ضلوعك بهذه العصا.
باستهزاء ترد.. أنت دائما تقوى على إيذائي أنا فقط.. أنا اللقمة الوحيدة المستساغة لديك.
… اسكتي وإلا… قولي من هم.. ؟

كان "بوثعلاوث" قد فكر بأن هذا ما هو إلا فعل جاره وغريمه الذي يكن له حقدا دفينا.. بحزم تقطع عليه تفكيره.. لقد جاء العسكر إلى هنا وعبثوا بممتلكاتنا بعدما أشبعوني ضربا، وقاموا بذبح الفرس واقتلاع الأشجار وفي الأخير اقتادوا البقرة الوحيدة التي نملكها وتركوا هذه الورقة وطلبوا حضورك إليهم غدا.
أمسك الورقة ومط شفتيه كمن يتوعد بالانتقام.. قفزت إلى ذهنه صور الأوراق التي كانوا يرسلونها في السابق والتي كان يمزقها.. وقد أعلم آنذاك بأنهم يطلبون منه دفع غرامة الملكية.. تأمل الورقة مليا ثم قال في سره ويداه تمزقان الورقة.. هكذا إذن.. غدا يدفعون الثمن ولن يأخذوا مني فرنكا واحدا .
أسدل الليل رداءه وسكن كل ذي حركة إلى مأواه وبقيت أصوات الصراصير المنبعثة من كل مكان تتوارد إلى أذني "بوثعلاوث" الذي أخذ مكانا له تحت شجرة البلوط القريبة من بيته، وراح يستعرض في مخيلته الطرق التي تمكنه من الانتقام لشرفه.. فكر أن يبيع بعض الشياه ثم يذهب إليهم لتسديد الغرامة وينتهي الأمر، ولكن شيئا ما بداخله كان يدعوه لاستعادة كرامته بالانتقام لشرف زوجته التي أهينت بالضرب، ولم يصل إلى فكرة معينة حتى مضى من الليل ثلثاه، فاستسلم للنوم يتوسد جذع شجرة البلوط ويلتحف بقايا برنوس.
في الصباح استيقظ مبكرا كعادته ولم يكن قد فصل في أمره، فرفع عينيه للسماء كمن يستجدي قوة خارقة يترجاها أن تعينه على الخروج من الورطة التي وضعه فيها الغزاة الفرنسيون.. وبينما هو كذلك لمح غصنا مستقيما يمتد من أسفل الشجرة إلى أعلاها وكأنه يلامس عنان السماء.. وتبادرت إلى ذهنه صور الآلات التي رآها في إحدى حضائر الغزاة، وفي الحال لاحت بارقة أمل على محياه، وابتسم في وقار كمن يكتشف سرا عجيبا..
أسرع إلى بيته وأحضر مجموعة من الأدوات الحديدية وقام باجتثاث الغصن ثم راح ينتزع لحاءه مستعملا ما توفر لديه من أدوات حادة، بعد ذلك قام بدهن باطنه بمختلف الزيوت، ثم أغلق إحدى طرفيه بقطعة حديدية كبيرة يتوسطها ثقب وضع فيه قطعة قماش محشو بالبارود الأسود، وجعلها تمتد إلى عدة أمتار مشكلة فتيلا قابلا للاشتعال، ثم قام بملء الغصن بأسطوانات تحتوي على كميات معتبرة من البارود وروث الحيوانات وبقايا قطع حديدية، ثم قام بحمل كل ذلك إلى أعلى قمة في جبل "الرفاعة" وهناك نصب الغصن على حجر كبير ووجه فوهته إلى أحد مواقع الغزاة ثم أشعل الفتيل واختبأ.. وكان النجاح حليفه.
في صباح الغد تناهى إلى سمعه خبر يقول بأن قوات المستعمر تكبدت خسائر رهيبة إثر انفجار في موقعها الرئيسي… وأن هؤلاء قد شرعوا في حملة للبحث عن مصدر القصف فما كان على بوثعلاوث إلا أن أعد لهم مفاجأة أخرى ، فأعاد الكرة حيث وضع كميات أكبر من البارود، وما إن أشعل الفتيل حتى توقف الزمن لتتطاير أشلاؤه في كل الاتجاهات.


• القصة حقيقية وقعت بقرية مركوندة إحدى قرى الأوراس الجزائري.
* الكروش ( بتشديد الراء ) شجرة البلوط باللهجة المحلية.